ونقد «الآخر» لذاته: نقد للانبهار الساذج به

TT

نعلن ـ بثقة ودليل ـ شهادة بالحق لصالح «الآخر»: شهادة تحليه بفضائل عديدة من بينها «فضيلة نقد الذات»: بشجاعة ووضوح ومثابرة.. قد يكون وراء ذلك نوع من التربية تربوا عليه، أو مساحات من الحرية تمكنهم من ذلك، أو بناء سلوكهم على قاعدة «التجربة والخطأ والتصحيح»، ومهما تكن العوامل التي انبنت عليها «فضيلة نقد الذات»، فإنها فضيلة حقيقية موجودة ملموسة في واقع حياتهم.

والكلمة الثالثة في أول المقال هي كلمة «دليل».. فما الدليل على أن «الآخر» ـ الغربي ها هنا ـ يتحلى بفضيلة نقد الذات؟

هذا هو الدليل «المستمد من ممارستهم لنقد ذواتهم»:

1ـ دليل نقدهم «تجربتهم الاجتماعية والأخلاقية».. يقول جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق: «أشار استفتاء حديث إلى أن 73% من الأمريكيين قلقون من أن الأمة تعاني من انحدار أخلاقي، ويعتبر انتشار المخدرات وتعاطي الكحول بين أوساط المراهقين من المشكلات الرئيسة في أكثر الضواحي تمدنا وتميزا. والصلات الجنسية غير الشرعية ليست محدودة في داخل المدن، وكذلك الحال مع الأمراض والإنجاب غير الشرعي الذي هو ثمرة لتلك الصلات. ولقد بدأت أمريكا تجربتها المشؤومة في الإباحية الاجتماعية قبل عقود، وقد يتطلب نقض هذه التجربة عقودا أخرى أيضا.. إن أزمة القيم في أمريكا أزمة عامة، ولا تستطيع معالجة مفردة أو جزئية دون أن تنهض بدراستها. ويمكن للسياسة القومية العامة، بل يجب عليها أن تفعل ما بوسعها من أجل ذلك.. وبدون التعهدات الداعمة من جانب الأمريكيين جميعا، فإن التركيز على الفضيلة والقيم يمكن أن يتوقف عند حدود اهتمام الصحافة بذلك خلال موسم معين.. إن أمريكا لا يمكن أن تسمح باستمرار هذا التدهور المتلاحق المفزع. فالمسؤولية الشخصية هي ما جعلنا شعبا قويا، أما الاستمرار في أزمة القيم فسيحولنا إلى شعب ضعيف منهار».

2ـ دليل نقدهم «تجربتهم الديمقراطية السياسية».. يقول ألفن توفلر (وهو من أبرز مفكري دراسات المستقبل وقد اشتهر بوجه خاص بكتابه الشهير «صدمة المستقبل») يقول: «يمكن أن تدركوا لماذا يمكن أن يكون دستور الولايات المتحدة نفسه بحاجة إلى إعادة نظر وتغيير.. ليس في حوزتنا مخطط سهل لدستور الغد، ولا ثقة لنا بهؤلاء الذين يزعمون أنهم يملكون الإجابات، بينما نحن لا نزال نحاول صياغة الأسئلة. لقد آن الأوان لأن نقدم تصورا لبدائل مختلفة اختلافا تاما، ونناقش، ونختلف، ونجادل، ونخطط ـ بدءا من الآن فصاعدا ـ.. نفعل ذلك كله من أجل «الهندسة الديمقراطية» للمستقبل.. لسنا بالتأكيد دعاة التغيير الدائم أو غير المجرب للدساتير والقوانين، ولكنا نعرف أيضا: أن القوانين والدساتير يجب أن تساير تقدم العقل البشري، وأن تساير الزمن.. والحقيقة أن بناء حضارة جديدة على أنقاض المؤسسات القديمة يستلزم وضع تصميم لأبنية وهياكل سياسية جديدة أكثر ملاءمة.. هذا مشروع مهول ذو أبعاد مذهلة، ولكنه ضروري، ويتطلب خوضه معركة طويلة الأمد لإجراء مراجعة شاملة وإصلاح جذري للكونجرس الأمريكي، ومجلس العموم واللوردات البريطانيين، والجمعية الوطنية الفرنسية، والبوندستاج الألماني، والدايت الياباني، والإدارات الحكومية الراسخة الدعائم في كثير من الدول، وكذا ما فيها من دساتير ونظم قضائية.. كل تلك البنى يجب أن تتغير، ليس لأنها شريرة، ولا لأنها مجرد أداة في يد هذه الجماعة أو تلك، وإنما لأنها أصبحت كالماكينة التي أمسى تشغيلها صعبا، ويزداد صعوبة باستمرار، لأنها لم تعد ملائمة لتلبية احتياجات عالم يتغير تغيرا جذريا ـ مثلا: إن «حكم الأغلبية» لم يعد كافيا: كمبدأ للشرعية فحسب، وإنما أيضا لم يعد بالضرورة مبدأ ديمقراطيا لإنسانية البلاد التي تتهيأ للمستقبل، فسيأتي يوم ينظر فيه المؤرخون إلى عملية التصويت والبحث عن الأغلبيات كأحد الطقوس العتيقة التي يمارسها أقوام بدائيون».

3ـ دليل نقدهم «تجربتهم في الابتعاد عن الإيمان بالله».. يقول دونالد سترومبرج: «يعاني الإنسان المعاصر أزمة رئيسة تتمثل في شعوره بالحاجة الماسة إلى قيم تعطي حياته فهما ومعنى. ومما لا شك فيه أن المنبع الوحيد الذي يستطيع أن يستمد الإنسان منه قيمه هو الإيمان الديني بأوسع معانيه. ولكن ما ورثه هذا الإنسان من شك وشكّية يحول بينه وبين إيمان كهذا.. إن روح الغرب لا تزال تعاني انشقاقا عميقا. وهذا الانشقاق لن يلتئم ما دامت الروح الغربية تحتفظ بمعرفة لا تثمر إلا الريبة والشك.. والحق أن هذا المأزق عذّب ولا يزال يعذّب أرهف عقول الغرب في القرن العشرين: أرهفها حسا، وأخصبها إبداعا.. ولقد برهنت المعتقدات الخرافية على أنها شديدة الضرر، بل كارثة نزلت بالبشر، الأمر الذي يستوجب منا ربط الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي بعربة تختلف كليا عن عربة الأسطورة والخرافة.. فهل تكون العربة المرجوة: علما محايدا ومتوازنا؟ أم ماذا؟ ما الحل الحقيقي؟».

هذا النقد القوي الواضح الجري الصارم يدل ـ بلا ريب ـ على تحلي الغربيين أو «الآخر الغربي» بفضيلة عظيمة هي «فضيلة نقد الذات». وهي فضيلة يتوجب الاعتراف الصادق بها، والشهادة لهم بها: بلا تحفظ، ولا وسوسة، ولا استعلاء ملؤه الغرور الأجوف، والكبر الجهول، والنزوع المرضي إلى الانتقاص من أقدار الآخرين بالباطل.

والحكمة المستنبطة مما سبق، أي من نقد الآخر الغربي لذاته على ذلك النحو الجريء الساطع.. الحكمة المستنبطة: مفهوم وسؤال:

أولا: المفهوم: أن نقد الغربيين لذاتهم مبني ـ فلسفيا وعمليا ـ على مسلَّمة أن تجاربهم الاجتماعية والسياسية والروحية ليست ناجحة بالصورة التي يتخيلها من هو خارج بيئة تلك التجارب، بدليل أنه بعد قرون من خوض هذه التجارب اكتشف عددا هائلا من النخب المفكرة الذين وُلدوا في مناخ هذه التجارب وتربوا عليها، وتنفسوا في أجوائها.. بعد قرون من التجارب طفقت هذه النخب تكتشف النقائص والعيوب والمصائب ثم توجه النقد المرير إليها: بعلم وأمانة واجتهاد فكري معتبر.

وهذه حقيقة اجتماعية وسياسية وروحية: تطفئ الانبهار الساذج أو الخيالي بـ«تجربة الآخر»، والدعوة إلى تقليدها ومحاكاتها: بلا عقل، ولا تبصُّر، ولا علم بما يدور هناك ويمور من نقد يتناول الجذور والأسس والتطبيقات.. ثم إنه في هذا النقد الغربي للذات الغربية: دعوة للمنبهرين بالكف عن الانبهار بهم.. فالتقليد من حيث هو تقليد: منقصة مذمومة. وإذا جاز التقليد، فإن العاقل يقلد الناجحين ـ في هذه المجالات ـ ولا يحاكي الخائبين.

ثانيا: السؤال وهو: وأين نقدنا نحن لذاتنا ؟ والجواب من شقين:

1ـ الشق الأول وهو: أن أصول منهج النقد موجودة.. فالقرآن مفعم بنقد وتقويم سلوك المسلمين الأوائل الذين عاصروا تنزل الوحي.. ومن ذلك ـ مثلا ـ قول الله جل ثناؤه ـ للمسلمين بعد المصيبة في أحد: «أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ».. أنتم ـ وليس أحد آخر ـ تتحملون مسؤولية ما وقع لكم.

2ـ الشق الثاني وهو: أن نقد المسلمين أنفسهم من حيث الواقع لا يكاد يبين في غمرة مدح الذات، وتحميل الآخر مسؤوليتهم عما يحدث لهم.. وهذا خطأ جسيم ليتوجب أن يتحرر منه المسلمون سراعا، فبعد انقطاع الوحي لم يعد هناك سبيل لإصلاح الذات إلا نقد الذات.. ويمكن أن يستفيد المسلمون في هذا المجال من تجربة نقد الغربيين لذواتهم.