عندما يتجاهل الساسة ذاكرة الأمة

TT

عندما توفي هنري الينغتون عن 113 عاما يوم السبت الماضي، تسابق ساسة بريطانيا لرثائه؛ وقال رئيس الوزراء غوردون براون (وسرعة البديهة ليست من أبعاد شخصيته) إنه تشرف تاريخيا بلقاء المرحوم.

الرثاء يصدر تقليدا عن فرد من العائلة الملكية يكون القائد الأعلى Colonel in chief للوحدة العسكرية للمتوفى. الملكة شخصيا رثيت الينغتون لكونه أكبر معمر اشترك في الحربين العالميتين، ميكانيكي في سلاح الجو الملكي. فقد عرفته، في مقعده المتحرك، متقدما موكب المحاربين القدامى في يوم تذكر الشهداء،11 نوفمبر، عندما تضع جلالتها، نيابة عن الأمة والكومنولث (بلدان الإمبراطورية سابقا) في الحادية عشرة صباحا، إكليل الورود تذكرا لمن سقطوا دفاعا عن الحرية والديموقراطية.

فلماذا تهافت الساسة، حكومة ومعارضة، على رثاء الينغتون؟

توقيت الوفاة هو السبب. فشعبية حكومة براون العمالية تدنت إلى مستوى غير مسبوق مما دفعه لتجنب زيارة دائرة نوريتش عشية انتخاباتها الفرعية، الخميس، خشية أن يتهم «بنحس» مرشح العمال فيها، حيث توقعت استطلاعات الرأي هزيمته.

في الوقت نفسه ارتفعت خسائر الجيش البريطاني في أفغانستان لتفوق خسائره في العراق.

الهوة تزداد اتساعا بين تصريحات رئيس الأركان الحالي السير ريتشارد دانيت، وكبار الضباط عن حاجة الجيش الملحة للمعدات والأسلحة وخاصة طائرات الهليكوبتر، في ناحية، وبين تصريحات رئيس الوزراء (آخرها الأربعاء في لقائنا الشهري معه) بأن «الجيش لديه المعدات والتجهيزات المناسبة للقيام بعملية مخلب الفهد [مطاردة الطالبان لإخراجهم من الإقليم] الدائرة حاليا»؛ في ناحية أخرى.

الاستطلاعات تؤكد دعم غالبية الشعب للجيش ولمهمته ـ يصفها المراقبون بـ«النبيلة والضرورية لمحاربة الإرهاب ونصرة شعب أفغانستان الذي يرفض عودة ديكتاتورية القرون الوسطى الطالبانية» (موقف الكاتب أيضا). وتؤكد أن سخط الشعب على الحكومة وبراون شخصيا - سببه نقص المعدات العسكرية؛ ولا تطالب الأغلبية بالانسحاب من أفغانستان، مثلما تدعو أقلية يسارية، معظمها من الإسلاميين الراديكاليين وحلفائهم من الفوضويين المعادين لأميركا، لكن ارتفاع شعبية الرئيس باراك أوباما الجارفة اضطر اليساريين لتوجيه حملة الكراهية ضد أفغانستان كارث عدوهم اللدود جورج بوش وحليفه توني بلير.

حفنة من المتظاهرات والمتظاهرين توجهت إلى داوننج ستريت بلافتات تطالب بالانسحاب من أفغانستان في يوم استقبال البلاد لنعوش ثمانية من الجنود بطائرة هبطت في قاعدة السلاح الجوي الملكي لينام، وأيضا، على بعد 30 مترا من داوننج ستريت، جنازة حامل أعلى رتبة عسكرية يموت في أفغانستان، الكولونيل روبرت ثورنلو (وحضرها الأمير تشارلز بصفته أمير ويلز، القائد الأعلى للواء حرس الإمارة الذي يتبعه الكولونيل).

واضطر البوليس لحماية حفنة المتظاهرين من غضب المارة الإنجليز الذين رأوا في المظاهرة إهانة لذكرى موتى الجيش خاصة أن المراقبين يشهدون بشجاعة جنود لواء الحرس الأميري وبطولاتهم.

بدت الحيرة على وجوه عشرات السائحين (وأكثرهم من بلدان لا تسمح بالتظاهر، أو من بلدان يحمل بوليسها السلاح)، فالبوليس ـ الذي لا يحمل سلاحا ـ يحمي المتظاهرين، بدلا من ضربهم، ويصطحبهم، بلطف وبكلمات مهذبة، إلى الأمان النسبي على الرصيف المقابل من شارع وايتهول (مقر معظم الوزارات) حيث الحشائش الخضراء لحديقة وزارة الدفاع بأحواض أزهار منمقة حول تماثيل العديد من أبطال التاريخ العسكري الإمبراطوري.

الواضح، من أسئلة الصحافيين سواء في لقائنا المتكرر مرتين يوميا مع مستشاري رئيس الوزراء، أو اللقاء الشهري معه شخصيا، يتضح، والسلطة الرابعة مؤشر صادق للرأي العام، أن بريطانيا تميل إلى تصديق العسكريين وأهالي الجنود القتلى لا إلى رئيس الوزراء؛ كما تسخط من نقص المعدات، خاصة طائرات الهليكوبتر (للأميركيين أكثر من خمسة أضعاف البريطانيين من طائرات الهليكوبتر في أفغانستان، بينما يقل عدد جنودهم عن مثيلهم البريطانيين) وسيارات مصفحة تتحمل الألغام، وأجهزة الكترونية لكشفها قبل وصول الجنود لمجال شظاياها.

الاستطلاعات تشير أيضا إلى أن الشعب لا يميل لتصديق براون حول كفاية المعدات للجنود فحسب، بل يعتبره مسؤولا شخصيا عن تخفيض الميزانية العسكرية ورفض توفير ميزانية إضافية لشراء المعدات اللازمة عندما كان وزيرا للمالية (1997- 2007).

هذه العوامل دفعت ببراون، وزعماء المعارضة، إلى «التمسح» في بركة المرحوم الينغتون الذي شارك في حروب غيرت مجرى التاريخ.

فالساسة الحاليون (باستثناء حفنة من اللوردات في مجلس الشيوخ) حكومة أو معارضة، جيل جديد ولد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ولم يختبروا منها أو من آثارها (كالفقر وانخفاض مستوى المعيشة وتلقي المعونة الأميركية ببطاقات التموين في الخمسينات) إلا ما قرأوا عنه في الكتب.

والوزراء الحاليون نتاج ثقافة اليسار المناهضة للحرب فتحاول إعادة كتابة التاريخ بأسلوب يخجل من الإرث الإمبراطوري الذي يفتخر به أبناء المستعمرات السابقة.

حكومة براون وجدت نفسها في الناحية الأخرى من هوة ثقافية تفصلهم عن ضمير الأمة ووعيها الحاضر، وذاكرتها الحية. فالحرب العالمية الثانية، بأطنان من قنابل اللوفتوافا على لندن والمدن الكبرى، وصمود الشعب لا يزال الحجر الأساسي في مكون الثقافة البريطانية الشعبية.

ظهر ذلك بوضوح في رد الفعل التلقائي لأهالي قرية ووتن باسيت حيث يمر من شارعها الرئيسي طريق نقل جثامين الجنود من قاعدة سلاح الجو الملكي لينام الى مستشفى رادكليف (شمال أكسفورد) لإعدادها للجنازات.

تصرف تلقائي لم يرتبه احد، بدأته صاحبة محل في القرية فتحول إلى تقليد. مع مرور كل سيارة سوداء (أو قافلة) تحمل نعشا فوقه علم البلاد، يخرج سكان القرية وأصحاب المحلات ليصطفوا في صمت وخشوع، أحيانا ما تلقى قروية وردة فوق السيارة، أو تذرف جدة عاشت الحرب العالمية أو فقدت فيها عزيزا، دمعة أو اثنتين.

عمدة القرية بيرسي مايلز (نفسه محارب قديم) توسل للصحافيين ترك القرية الخجولة وشأنها خلف حجاب أشجار مقاطعة ويلتشيبر.

فقبل «اكتشاف» شارع الصحافة لم توجد وودن باسيت على خرائط المهاجرين بثقافاتهم الغريبة عن ثقافة هادئة محافظة صمدت لحربين عالميتين، أو على خرائط سياسة معاول هدم ما بقي من تراث لم تغرب عنه الشمس؛ ثقافة تتحمل قسوة الحرب ببرود، وتتقبل التضحيات بالورود، وتمسح دموعها لتبني من جديد.

فليقرأ جيل ساسة بريطانيا الشاب صفحات التاريخ ويأخذ العبرة من بلدان، شرق أوسطية وافريقية، انحدرت من قمة الحضارة لحضيض التخلف في زمن قياسي بقيادة حكام فصلتهم ثقافات الانقلابات العسكرية الثورية عن الثقافة المتوارثة لآلاف السنين، فتدخلوا فيما لا علم لهم به من ثقافة وفنون ومناهج تعليم، فتفقد الأمة ذاكرتها؛ وذاكرة الأمم هي «فرملة» تمنع الانزلاق للوراء من قمة المنحدر.