النادل إيطالي

TT

عندما جئت إلى أوروبا أول مرة كان قد مضى على نهاية الحرب العالمية الثانية عقد ونصف. كانت مدن ألمانيا، التي دكتها الحرب دكا، بلا أثر لأي جرح ظاهر. طرقاتها السريعة في عرض النيل أو الراين. وجاداتها نظيفة لم يمر بها لبناني ليرمي ورقة «الكلينكس» بعد استعمالها. ومبانيها مزدحمة. وقطاراتها على الثواني. وكانت فرنسا بمليون جرح داخلي ولا أثر لأي ندب خارجي. وكان الألماني عابسا والفرنسي خائفا كما هو منذ 200 عام، وكان الإيطالي يغني. يغني في الباص ويدندن في محطة القطار ويسرع في شوارع روما يصفر ويغني ويرقص عند الضوء الأحمر.

بعد حروبه على نفسه وحروب الكل عليه، كان اللبناني يعبس مثل الألماني ويخاف مثل الفرنسي ويغني ويدندن ويصفر مثل الإيطالي. ولئن لم يرقص عند الضوء الأحمر فلأنه لم يعتد التوقف عنده.

لا يزال اللبناني يقترض منك ليدعوك إلى العشاء، ولا يزال يصرف ما في الجيب وليأت ما في الغيب. ولن يجد الألماني، إذا عاش مائة عام، قريبا أو صديقا يقترض منه. لكن اللبنانيين مجتمع تكافلي تضامني، ولهذا السبب لم يعرفوا الجوع خلال 17 عاما من الدمار. فقد كان لكل عائلة صديق أو قريب يعمل في مكان ما. ويخصص جزءا من دخله لإرساله «إلى الوطن».

كنت قد قرأت قبل سفري عن الشغالة التي كانت تدبر إقامة الكاتب النمساوي ستفان زفايغ في برلين والفاتورة التي قدمتها له في نهاية الشهر الأول: ثلاث فنكات خياطة زر السترة، 5 فنكات كي القميص الأبيض، 10 فنكات إيجار الباص. وفي النهاية يصل المجموع إلى 67 فنكا، أي أقل من مارك واحد. لكنها الدقة البروسية وآثار الحروب. لا مكان للسلوى في بروسيا، أو في حفيدتها برلين، التي كانت في نهايات القرن التاسع عشر بلدة كبيرة لا تزال تنافسها ميونيخ ودرسدن. وفي أوائل القرن العشرين كان هتلر قد جعلها عاصمة «الرايش الثالث» وأراد أن يجعلها روما الحديثة. المشكلة أن هتلر كان نمساويا، لم يكن برلينيا. لذلك بناها ودمرها على رأسه وعلى رؤوس الجميع.

تعود برلين اليوم، في هدوء، واحدة من أهم عواصم أوروبا. كانت رمزا للحرب الحارة وللحرب الباردة وللجدار وللحصار وللجوع وللرعب. واليوم سمعتها في المقهى تغني، مثل الإيطاليين. ولا عبوس ولا بسمارك ولا هتلر ولا غورنغ ولا غوبلز. مقهى، على الرصيف، وبرلينيات ذوات شعر أحمر. ورجال يقرأون الصحف. ونادل يبتسم، نكاية في كل تاريخ بروسيا. وهو إيطالي، في أي حال.