عبد المساكين

TT

في زيارتي الوحيدة لليمن، وبينما كنت أسير مع أحد الإخوة اليمانيين بمحاذاة السور العتيق لصنعاء، وقبل أن ندخل من أحد الأبواب الكبيرة، أشار مرافقي إليه قائلا: هذا باب «خزيمة»، وتقول الأساطير: إن من يضر مسكينا ويدخل من هذا الباب يسقط على رأسه حجر ويصرعه في الحال.

وما إن سمعت منه هذه الجملة، حتى توقفت «وتتربست» في الحال، فتعجب من أمري وسألني: هل سبق لك أن أضررت مسكينا حتى تخاف على نفسك كل هذا الخوف؟!

قلت له وأنا ما زلت واقفا في مكاني: لا أعتقد ذلك فأنا أعتبر نفسي «عبدا من عبيد المساكين»، ولم يشقني في حياتي كلها أكثر من أن أرى رياح العوز والقهر والظلم تتقاذفهم من كل حدب وصوب دون أن ينتشلهم أو يلتفت لهم أحد. غير أنني أخاف ـ يا غافل لك الله ـ أن أكون قد أضررت مسكينا دون قصد ودون أن أفطن لذلك.

ضحك على ما يبدو من سذاجتي وقال: لا لا تخف فما هي إلا أساطير، وها أنت ترى جموع الناس تدخل وتخرج دون أن يسقط على رأس أي أحد منهم حجر واحد.

أجبته وأنا أتصنع الهبل: قد يكون جميع هؤلاء أناسا أخيارا يسعون لخدمة المساكين. قال لي: أبدا فأغلبهم هم من المساكين أمثالي وأمثالك.

وبينما نحن ندخل من ذلك الباب سألته عن سبب تلك التسمية، ومن تكون «خزيمة»؟! هل هي «صحابية»؟! قال لي: لا إنها «ألمانية»، فقلت متعجبا: نعم؟! ألمانية؟! وماذا أتى بها إلى هنا؟!

فقال لي: إن قصتها طويلة، ولكنني أختصرها لك وأقول: إنها ولدت في صنعاء في القرن التاسع عشر، ووالدها تاجر ألماني استوطن اليمن، وكون ثروة هائلة من تجارة الحرير والعطور والبخور والتوابل.

ونشأت «خزيمة» في منزل والدها الكبير في صنعاء، واندمجت في الحياة هناك، تلبس نفس لبس الأهالي، وتتكلم بلهجتهم، وتمارس طقوسهم وعاداتهم ورقصاتهم وأغانيهم وأكلاتهم، وكونت صداقات حميمة مع أقرانها من البنات.

وبعد حين قرر والدها أن يعود إلى ألمانيا نهائيا، وكانت ابنته في حينها قد بلغت سن المراهقة، وعندما وصل إلى هناك اشترى قصرا باذخا على ضفاف نهر «الراين»، غير أن «خزيمة» لم تطق العيش هناك، وانطوت على حالها وانعزلت في غرفتها، وعندما بلغت الثامنة عشرة من عمرها حاول والدها أن يزوجها، ولكنها رفضت قائلة إن منظر شاب يماني يتمنطق «بالجنبية» حول خصره، لأحب إليها من شاب ألماني يلبس أجمل ملابس السهرة.

ومرضت وفشل الأطباء في علاجها، وبعدها توفي والدها وأورثها القصر والمجوهرات والثروة الطائلة، غير أنها رغم مرضها وضعفها وإحساسها بدنو أجلها أصرت على العودة لليمن، ووصلت بعد مشقة وماتت وأوصت بأن توزع ثروتها على المساكين، ولا أستبعد أن المسكينة ماتت بداء (العشق).

وحققوا لها أمنيتها وحفروا لها قبرا عند هذا الباب الذي أطلقوا عليه اسمها، أما المال فيقال إنه اختفى، ولا يعلم أحد أين ذهب!!