كيف يستيقظ من نومه؟

TT

في أعقاب نشر تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن العالم العربي، والذي كانت إحدى استنتاجاته الصاعقة أن نصف لاجئي العالم هم من العرب، نشرت مجلة «الإيكونومست» في عددها الأخير تقريرا من أربع عشرة صفحة عن العالم العربي مع مقال افتتاحي يخلط الغث بالسمين ويحمّل العرب مسؤولية كل تبعات ونتائج السياسات الاستعمارية التي احتلت وقسمت بلدانهم وفرضت عليهم أنظمة بطريقة تجعل من الصعب إن لم يكن من المستحيل تجاوزها وتحقيق التكامل العربي إن لم يكن الوحدة العربية أو التضامن العربي، الذي نعلم جميعا أنه الطريق الوحيد لقوة العرب ومنعتهم. أحد مؤشرات هذا الواقع العربي وأحد مظاهر ضعفه المتمثل باستمرار حالة الاستلاب الفكري والقيمي للعرب هو أن مجلة «الأيكونومست» ذاتها هي التي أعدت تقارير مسبقة عما يجمع العرب، وما هي أهم المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يعانون منها، وما هي مشاكل الشباب في العالم العربي الذي يحتاج إلى 50 مليون فرصة عمل بحلول عام 2020. مثل هذه الدراسة على أهميتها يجب أن تُقرأ بعين الحسرة والحيرة إذ لا يكفي أن العالم العربي أصبح تربة خصبة للغزو والاحتلال والاستعمار والعدوان والاستيطان والطغيان والفرقة المصطنعة بين أبنائه، تارة بأعذار عرقية وأخرى بحجج دينية، بل إن تفسير هذه الأحداث وقراءتها وتقييم نتائجها أصبحت حكرا على الطبقة المفكرة في الغرب والتي تعمل برداء ديمقراطي نظيف على خدمة أنظمتها ومصالح الشعوب التي تنتمي إليها. وليس في هذا غضاضة على هذه النخب، إذ من حق المفكرين، لا بل من واجبهم، أن يخدموا مصالح أوطانهم وشعوبهم. ويبقى السؤال الكبير ما هو موقف العالم العربي من كل هذه التقارير التي تتناول حياته وثرواته وثوراته التي لا تزال تغلي تحت السطح من أجل الحرية والتغيير، وإلى أين يتجه هذا العالم في ظل التطور والتنافس الذي تشهده البلدان المتقدمة والتي تسارع الخطى لتحقيق الأمن الغذائي والمائي، وتكثيف قدرات الحصول على الموارد والتكنولوجيا والطاقة ومعالجة مشاكل الشباب. طبعا لا يوجه تقرير الأمم المتحدة ولا تقارير «الإيكونومست» أي لوم للقوى الغربية على احتلال العراق أو احتلال فلسطين أو التدخل الدموي في الصومال أو المطالبة الغربية المستمرة بترسيم حدود الدول العربية وبناء الجدران بينها بل وفي داخل البلد الواحد، كما لا ينوه إلى مصادرة الأراضي أو استيطانها في فلسطين، ولا يتطرق إلى حرق المحاصيل من قبل المستوطنين اليهود ووضع اليد على مصادر المياه، وكذلك تتحاشى التقارير ذكر مآسي النساء والأطفال والوضع التعليمي الذي بلغ أسوأ حالاته في العراق وفلسطين نتيجة احتلال شرس، وهذا ليس مفاجئا بالطبع، فالغرب يوصّف حالة ويلقي باللوم على أهليها ولكن أين هو التوصيف العربي للحالة العربية؟ وأين هو النقاش العربي الجريء والصريح والمستمر للوضع العربي؟ وأين هي الاستراتيجيات العربية الكفيلة بالتوجه بالعرب نحو الإنقاذ خاصة أن التعليم في العالم العربي والذي هو مصنع الأجيال يعاني من أزمة حادة في اللغة والفكر والمستوى والمواكبة العالمية للثورات التكنولوجية والمعرفية في العالم. وكي يريح البعض أنفسهم من عناء المحاولة فقد حصروا الخيارات في ديمقراطية لم تأتِ لحد الآن إلا بالكوارث والدمار والطائفية والتقسيم كتلك التي صدرها المحافظون الجدد إلى العراق أو الإبقاء على الوضع الراهن والذي يشهد تراجعا ملحوظا في مجالات عدة حتى عما شهدته البلدان نفسها منذ عقود، مع أن طبيعة الحياة هي التطور والتحسن والسير إلى الأمام ترانا جميعا في العالم العربي من أقصاه إلى أدناه نعتبر النصف الأول من القرن العشرين عصر النهضة والنصف الثاني عهد نمو الحركات التحررية والقومية أما اليوم فنشهد تراجعا ملحوظا لدور المثقفين والعلماء والساسة والأحزاب ودورا نشطا للفتاوى حتى في أمور لا تتعلق بجوهر الدين أو بقيمه.

لا شك أن العرب تعرضوا لهجمات شرسة على مدى قرن من التقسيم والاحتلال والتواطؤ على تاريخهم ومقدراتهم وثرواتهم وهذا دليل على غنى هذه الأمة وطمع مستهدفيها بمكانتها وثقافتها وحضارتها وثرواتها ولكن الهجمات المدمرة التي انتابت الأمة هي هجمات على فكرها وثقافتها وموقفها من العالم والتي أنتجت إحباطا وضعف ثقة بالنفس، وقد أضافت إليها أحداث الحادي عشر من أيلول تهمة الإرهاب والتطرف، بحيث أصبح العرب جميعا في موقف الدفاع عن النفس وأصبح شغلهم الشاغل هو البرهان على أنهم كبقية البشر يمثلون شرائح مختلفة من العالِم إلى الجاهل، ومن المبدع إلى العادي، ولكن الشيء الأساسي الذي أغفل العرب التركيز عليه هو بناء المؤسسات الفاعلة والتي تحرك وتضبط إيقاع المجتمع والاقتصاد والسياسة. فكما ذكرت افتتاحية «الإيكونومست» لأسباب مغايرة عما يدور في خاطري «فإن الديمقراطية ليست مسألة انتخابات فقط، بل هي معنية بالتعليم والتعايش وبناء مؤسسات مستقلة مثل القضاء المستقل والإعلام الحر» والمواطنة الحقيقية ليست فقط للاهتمام بالذات والأهل والأقارب بل هي مشروع وطن ومستقبله، وليس الخلاص الفردي وجها من أوجه المواطنة الحقة على الإطلاق، والسائد اليوم في العالم العربي هو الخلاص الفردي وتأمين الأولاد والأحفاد على حساب مستقبل الوطن الذي يجب أن يمثل الضمانة الأكيدة للجميع. فمن أقصى العالم العربي إلى أدناه يتذكر الجميع بحنين مستوى الجامعات والمدارس في النصف الثاني من القرن العشرين والعمالقة الذين أنتجوا فلسفة وفكرا وقيما على مدى التاريخ. وقد ذكرت في مقال سابق «المقارنة بين الحداثة الغربية والتقليد العربي» كيف أننا نأخذ من الغرب قشورا سطحية ضارة بنا على حساب أشياء جميلة ورثناها عن الآباء والأجداد وتخلينا عنها باسم الحداثة والمعاصرة. ما أريد أن أضيفه اليوم هو أننا فشلنا أن نفهم المقومات الأساسية التي مكنت الدول الغربية المتقدمة من تحقيق قفزات نوعية في مختلف نظمها واكتفينا بمهاجمة الدول الديمقراطية التي احتلت العراق وأفغانستان والتي تؤيد إسرائيل في ارتكابها أبشع الجرائم بحق العرب، ولكننا لم نلتصق بهذه الظاهرة ونسأل كيف ولماذا يحدث هذا؟ أهو اختلال في ميزان القيم الغربية أم أنه أيضا عجز عن التواصل مع هذه الدول وفهم منهجية وآليات عملها والنفاذ إليها من القنوات المؤسساتية التي تتبناها وتحترمها بدلا من الدعوات المتكررة واليائسة لها أن تفهم أسلوب عملنا وتحترم طرائقنا في إيصال مواقفنا مما يجري لبلداننا. وكيف يمكن لنا أن نفعل ذلك إذا كانت استثمارات العرب في الخارج ركزت على الملاعب والفنادق والعقارات ولم تلامس مصانع الفكر التربوية والتعليمية والثقافية أو نتاج وصناعة الفكر في الإعلام بكافة أشكاله، وبقينا مستهلكين للمنتج والفكرة حتى تلك التي توصّفنا وتقيمنا وترسم لنا ملامح المستقبل. وليس عليك كي تكتشف عمق الصفة الاستهلاكية للعرب واعتمادهم على استخدام منتج الآخر إلا أن تذهب إلى العواصم الأوروبية الأساسية في فصل الصيف لترى أن العرب هم المستهلكون الأساسيون لخدمات وبضائع هذه العواصم، وأنهم يدفعون كل عام أموالا باهظة لشراء كل ما ينتجه الغرب، ومن ثم يصبحون مادة للتقريع لأنهم لم يطوروا مؤسساتهم ونظمهم التعليمية والبحثية والفكرية ولم يتمكنوا حتى من دراسة واقعهم وتشخيص هذا الواقع ووصف الدواء له. وإذا ظن أحد أن هذا الأمر بحاجة إلى تكنولوجيا خارقة أو أدوات معاصرة فهو مخطئ فما زال المحرك الأساسي في الغرب للتطوير والتحديث هو العقل البشري وما زالت مهارات التقانة الحديثة سهلة المنال مقارنة بالفكر النير الذي ينتج التقانة والأفكار والمادة والمؤسسة وكل ما يدفع بالبشر إلى وضع أفضل. صحيح أن هناك الكثير من العنصرية ضد العرب والكثير من المعوقات التي تفرض علينا من الخارج، ولكن الصحيح أيضا هو أننا في حالة من الترهل والتكاسل والاتكالية لا تليق بشعب يريد أن يصنع مستقبله بنفسه. ليس عيبا أن نعترف أننا لم نستيقظ بعد ولكن الخطير هو أن نركن إلى حالة السهاد ونلقي باللائمة على الاستعمار وأعداء الحرية. في كل حركة هادفة يبقى الإنسان هو الرأسمال الأكبر والتعليم هو المفتاح، فهل نبدأ بوضع التعليم والبحث في العالم العربي في مكاشفة صريحة وواضحة كمؤشر مبدئي أننا فعلا نستيقظ وحين يستيقظ العرب فعلا لا شك أنهم يحرقون المراحل ويصنعون الأفضل لهم وللبشرية جمعاء.