عنوان لفلسطين

TT

ترى إلى أين يذهب من يريد التوسط في حل القضية الفلسطينية؟ إلى أي عنوان؟ هل يذهب الأوروبيون والأميركيون إلى عنوان السلطة الفلسطينية في رام الله أم إلى عنوان حركة «حماس» في غزة؟ مع من يجب أن يتحدث مثلا السناتور الأميركي السابق جورج ميتشل أو وزير خارجية الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا؟

في حوار أجرته صحيفة «الشرق الأوسط» في الخامس والعشرين من هذا الشهر، مع القيادي الفلسطيني محمد دحلان، طرح فكرة جوهرية وهي أن «حماس» تمنح الإسرائيليين الذريعة التي يراوغون بها، وهي أنه لا يوجد شريك فلسطيني، وأن هذا الانقسام الفلسطيني يصب في مصلحة إسرائيل. بالفعل لا يوجد الآن شريك فلسطيني، والفضل في كل هذا يرجع لغباء الفصائل الفلسطينية المتناحرة. بالطبع لدينا الكثير ممن يتعيشون على النضال الورقي والفضائي، ولا يواجهون الفلسطينيين بهذه الحقيقة. ولكن دعونا نتحدث عن القضية الفلسطينية كبالغين عقلاء وليس كمراهقين.

لم تحظ القضية الفلسطينية في تاريخها بفرصة كبيرة للحل مثل الوضع الدولي القائم اليوم، فأوروبا مع الفلسطينيين وتريد أن تستصدر قرار الدولة الفلسطينية من الأمم المتحدة على غرار القرار الذي أدى إلى قيام إسرائيل، وخافيير سولانا يدفع بهذا الاتجاه، أما باراك أوباما فهو بكل تأكيد أفضل رؤساء الولايات المتحدة بالنسبة للعرب عموما والقضية الفلسطينية خصوصا. الذين يقفون ضد قيام الدولة الفلسطينية اليوم هنا طرفان: الفلسطينيون والإسرائيليون، وبهذا الترتيب. فهل لنا كعقلاء لا كمراهقين أن نساعد الفلسطينيين على التخلص من حالة التمزق الداخلي حتى يكون لهم عنوان واحد يقصده كل من يريد التوسط في الحل.

أيضا علينا أن ندرك بأن دولة فلسطينية لا تسهم في استقرار الأمن الإقليمي، من باكستان حتى المغرب، لن يؤيد قيامها أحد في المجتمع الدولي. ميلاد دولة في منطقة الشرق الأوسط المضطربة أصلا، لا بد لكي يحظى بالتأييد والدعم الدولي، أن يسهم في استقرار المنطقة برمتها، أما الدولة التي تسهم في زيادة الفوضى فهي دولة غير مرحب بها. دولة فلسطينية تسهم في الاستقرار الإقليمي تحتاج إلى قيادة قوية متماسكة وإلى رجل صلب على رأس هذه الدولة، ومن بين القيادات الفلسطينية يوجد رجل الأمن القوي محمد دحلان، والذي رغم كل الحملة «الحمساوية» الموجهة ضده، يبقى في اعتقادي هو القيادة الفلسطينية الأقدر على طرح تصور مهم فيما يخص ميلاد دولة فلسطينية تسهم في استقرار الإقليم أمنيا. دحلان كرجل أمن يعرف أن العالم يعمل حسب قواعد أمنية ثابتة، وأن الدولة الفلسطينية لن يساند قيامها العالم إن لم تكن هذه الدولة الوليدة تصب في خانة الأمن والاستقرار الإقليمي، ففلسطين بالطريقة المهلهلة التي نراها اليوم لا تشجع على الدعم حتى عند أكثر أصدقائها إخلاصا. وسلوك الفصائل الفلسطينية المختلفة وتناحرها يبدو للعالم الخارجي على أنه رغبة لدى هذه الفصائل لإبقاء الوضع على ما هو عليه. فالسيدان إسماعيل هنية وخالد مشعل حتى الآن لم يظهرا من النضج السياسي ما يمكننا من القول بأنهما راغبان في الحل لا راغبان عن الحل. بلا شك، إن ما تقوم به إسرائيل من احتلال وبناء مستوطنات لا يساعد على الحل أيضا، لكن بما أننا نكتب بالعربية ولا نخاطب إسرائيل، فلا بد وأن نواجه القيادات الفلسطينية بعيوبها. إدانة إسرائيل يجب ألا تكون صك براءة وغفران لكل الحماقات التي ترتكبها الفصائل الفلسطينية في حق شعبها وقضيتها. وظني أن العقلاء منا لا يقبلون بأن تبقى هذه القيادات الفلسطينية خارج دائرة النقد.

من المهم أن نكون جادين في نقد الوضع الفلسطيني لأنه بالفعل وضع مهلهل على أحسن تقدير. ذات مرة دعيت لمقابلة وزير الخارجية الفلسطيني في إحدى الدول الكبرى، وأثناء الجلسة عرض على وزير خارجية فلسطين خارطة للمستوطنات الإسرائيلية، وعندما أمسك الوزير بالخريطة أدركت لحظتها لماذا القضية الفلسطينية في ضياع مستمر، فلقد نظر الوزير إلى الخريطة وقرأ ما ليس فيها، كان واضحا أنه لم يقرأ خريطة في حياته. وبقيت مستغربا لماذا يقبل شعب لديه خيرة المتعلمين في أحسن جامعات العالم هذه القيادات لتمثله؟ لا أدري، سؤال يجيب عليه الفلسطينيون أنفسهم.

الناس سواء في غزة أو في الضفة يريدون أن تكون لهم دولة ككل البشر، يريدون حياة أفضل في ظل دولة ذات سيادة تحترم آدميتهم. غزة لا تختلف عن لبنان أو عن مصر أو عن سورية في هذا السياق. الناس تعبوا من المقاومة التي لا طائل منها، فالمقاومة لا بد وأن يكون لها هدف سياسي. الدول والحركات لا تحارب أو تقاوم إلا إذا كان هناك هدف سياسي من وراء الحرب أو المقاومة، وحتى الآن لم تقنعنا قيادات «حماس» ولا حتى الكثيرين من قيادات فتح بأن هناك هدفا معقولا وعمليا يسعون إلى تحقيقه، فإذا كان الهدف هو القبول بقيادات أفراد بعينهم كرموز للمقاومة والشرف إلخ.. فإننا سنعترف لهم بذلك ولا داعي لتضييع الأرواح البريئة من أجل طموح محدود كهذا. أما إذا كان الهدف هو تحقيق حلم الدولة للشعب الفلسطيني وأن يعيش هذا الشعب بكرامته كسائر الشعوب، فهذا نضال آخر يحتاج إلى استراتيجيات جديدة، وأولى هذه الاستراتيجيات هي خلق قيادة موحدة للدولة الفلسطينية القادمة، قيادة مقنعة للأعداء الذين سيتفاوضون معهم ويسلمونهم الأرض. فمن السهل إقناع الأصدقاء، ولكن حل القضية يحتاج إلى إقناع الأعداء أولا.

في أي اتفاق قادم بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يحتاج المجتمع الدولي للمصادقة على هذا الاتفاق إلى توقيعين، توقيع فلسطيني وتوقيع إسرائيلي، ومهما كانت إداناتنا لإسرائيل، إلا أن الكل يعرف من سيوقع نيابة عن إسرائيل في أي اتفاق قادم. ولكن هل يقول لنا «المناضلون» من سيوقع نيابة عن الفلسطينيين في جو أهم خصائصه هو التناحر بين الفصائل الفلسطينية المختلفة؟ الفلسطينيون اليوم هم أول أعداء قضيتهم، وآن الأوان أن نقولها لهم صراحة وبدافع محبة لا بدافع تشف.

معطيات الوضع السياسي العالمي قد تتغير بوجود باراك أوباما في البيت الأبيض، ولن يكون هناك وضع سياسي أفضل للعرب، وللفلسطينيين تحديدا، مما هم عليه اليوم. لذا على الفلسطينيين أن يكونوا مرنين مع باراك أوباما إذا أرادوا حلا لقضيتهم، وأن يوحدوا قيادتهم ويلتزموا بوقف العنف والعودة إلى طاولة المفاوضات المرتكزة على حل الدولتين الذي طرحته المبادرة العربية، دولة فلسطين ودولة إسرائيل. على حركة «حماس» أن تفهم جيدا هذه المرة أنه لا مناص من العودة إلى الحوار مع السلطة الفلسطينية في رام الله وتوحيد الصف الفلسطيني، فلا أحد في المجتمع الدولي سيسعى إلى إقرار حل ثلاث دول، وعلى إسرائيل أن تفهم جيدا أيضا هذه المرة أنه لا بد من قبولها دولة فلسطينية إلى جوارها، فلقد انتهى عهد المماطلة، ونعرف مسبقا أن إسرائيل لن تقبل وجود هذه الدولة من دون ضغوط عالمية قوية.

الفرصة سانحة اليوم، وعلى الجميع أن يعيدوا ترتيب أوراقهم بشكل بالغ وراشد. ونحن بصدد مؤتمر حركة فتح، يجب على الفلسطينيين أن يقدموا للعالم صورة توحي بأنهم شعب يستحق الاستقلال، لا شعب مراهق يأكل بعضه بعضا. مرة أخرى، الفلسطينيون أمام خيار تاريخي، بأن يكونوا جزءا من الحل لا جزءا من المشكلة، وبيدهم الخيار أيضا أن يجعلوا لفلسطين قيادة موحدة بعنوان موحد يقصده العالم كله إن أراد التفاوض مع الفلسطينيين.