هل تحتمل ملفاتنا «الساخنة».. ديمقراطية الآخرين؟

TT

«حقّك في أن تُسمع، لا يعني بالضرورة أن لك الحق في أن تؤخذ على محمل الجدّ»

(نائب الرئيس الأميركي السابق هيوبرت همفري)

حملت الأرقام خلال الأسبوع الماضي أخباراً مزعجة للرئيس الأميركي باراك أوباما تفيد أنه لأول مرة منذ انتخابه.. انحدرت نسبة تأييده إلى ما دون الخمسين في المائة.

غير أن هذه الأرقام، بالرغم من أنها قد تشير إلى نهاية قريبة لـ«شهر عسل» أوباما مع الناخبين الأميركيين، لا تُقاس بأي صورة من الصور بالبؤس المخيّم على رئاسة غوردون براون للحكومة البريطانية. ففي بريطانيا تتواصل النكسات الانتخابية لحزب العمال، تحت قيادة براون المهزوزة، أمام خلفية الأزمة الاقتصادية المتطاولة والقلق الخانق من فيروس إنفلونزا الخنازير.. مع كل ما يصحب ذلك من اقتناع جماهيري، قد يكون محقاً أو لا يكون، بأن الرجل استنزف نفسه وما عاد عليه سوى الرحيل.

أما في فرنسا، اللاتينية المزاج و«المتوسطية» الطبع، فيبدو حظ نيكولا ساركوزي أفضل نسبياً من حظ زميليه.. لأنه يعيش في بلد تعيش فيه الأحزاب السياسية وتموت في ظل الزعماء «التاريخيين». ولا شك أن ساركوزي مَدين في احتفاظه النسبي بزمام المبادرة لسوء وضع المعارضة الاشتراكية التي نجح الرئيس اليميني في تشتيتها وكشف زيفها وضحالتها وانتهازية عدد من أركانها.. ناهيك من سحر «المدام» كارلا بروني.

الديمقراطية، إذاً، نظام سياسي مزعج.

إنه نظام مزعج لقادة الديمقراطيات، وأكثر إزعاجاً لأولئك الزعماء في «العالم الثالث» ـ أو «الثالث عشر» ـ الذين يُراهنون عليهم، كما لو كان القادة الديمقراطيون مثلهم، باقين مخلدين فوق كراسيهم تحت مختلف الشعارات والشعائر والاعتبارات العشائرية.

لقد كشفت الأحداث المتلاحقة خلال الأشهر القليلة الماضية سواء في عالمنا العربي، أو في المحيط الأوسع في العالم الإسلامي، حيث نؤثر ونتأثر، كم هي صعبة ومعقدة مشاكلنا الوجودية. وهي كما تثبت التجارب.. الواحدة تلو الأخرى.. تزداد صعوبة وتعقيداً لأننا، بكل بساطة، لا نفهم السياسة إلا نزقاً ونكايات. في حين أن التغيير، حتى حين لا يكون بالضرورة الخطوة الأسلم والخيار الأفضل، هو سنّة الحياة السياسية والدافع الأكبر نحو التقدم.

في بلداننا، حيث الشرعية منقوصة في معظمها، لا نجد غضاضة في المساهمة طائعين بديمومة الوضع الراهن. والحجة الجاهزة الدائمة هي الخوف من المجهول. بل إن كثرة من المثقفين وأدعياء الثقافة استمرأوا خلال السنوات الأخيرة اللجوء بعد الفوضى العراقية التي تلت احتلال 2003 إلى ذريعة «المثال العراقي» لتبرير السكوت على الأوضاع الشاذة في بلدانهم، ولسان حالهم يقول «أي ديكتاتورية تظل أقل سوءاً من الفوضى». لكن غاب عن بال هؤلاء، أو ربما غيّب عمدا، أن التلويح بخطر «الفوضى» والحاجة لمنعها كان على الدوام سلاح ديكتاتورات العالم.. لإلغاء البدائل.

حتى في أوروبا، كانت الحجة الدائمة عند الأنظمة الديكتاتورية، الفاشية والنازية وأشباهها، قطع الطريق على الفوضى.. والفوضويين.

وأمام اعتبارات الحفاظ على الوحدة الوطنية في وجه «العدو» بمختلف صوره ومسمياته.. كانت تُقمَع الحريات وتُصادَر الحقوق وتُدمّر المؤسسات وتُعزّز السلطات في أيدي قلة مستفيدة مرحلياً من دفع الأمور نحو المأزق.

في منطقتنا الأمثلة كثيرة ولا حاجة لذكرها بالاسم، لا سيما، أنها تكرّر نفسها في غير مكان. وما كان ينقصها غير مجيء اليمين الفاشي إلى السلطة في إسرائيل لكي تتأمن القطعة المطلوبة لإكمال «السيناريو» التفجيري. ففي إسرائيل ـ نتنياهو «مدرسة» أخرى في الهروب من الحقائق، وامتهان كرامة الإنسان وحقوقه، وبناء «العسكريتاريات» الأمنية الثيوقراطية.

اليوم، الوَهن العربي المألوف، والاهتزاز الإيراني غير المفاجئ، والمقامرة الإسرائيلية الموغلة في عنصريتها، ومستنقع الأصوليات الممتدّ من إندونيسيا إلى شمال أفريقيا، عبر باكستان وأفغانستان وإيران.. كلها حالات خطيرة تنتظر موقفاً دولياً عادلا وحازماً. ولكن، هل هناك متسّع من الوقت عند الأنظمة «المكبّلة» بالديمقراطية للتصرّف، ولو لمرة واحدة، على أسس الالتزام بـ«ثوابت» قائمة العدل والمسؤولية؟

هل ثمة أمل بمقاربة عاقلة وشجاعة تُمارس بحزم ونفس طويل؟

إن الناخب الأميركي، الذي تأثّر من قبل بإعلام اليمين المتشدّد المسعور من نوعية «فوكس نيوز».. مرتين عندما انتخب جورج بوش «الابن»، لا تهمه إطلاقاً حقيقة أن باراك أوباما ليس الجهة المسؤولة عن عمق الأزمة الاقتصادية العالمية وتداعياتها.. ولكن يهمه كثيراً أن يخرجه منها بأسرع وقت ممكن.

أما «أوروبا اليمينية» التي ستبرز أكثر في العام المقبل بعد الفوز المتجدّد لأنغيلا ميركل في ألمانيا وهزيمة العمّال في بريطانيا، فلن تتعامل على الأرجح ـ بالنظر إلى السوابق العديدة ـ مع أزمات العالمين العربي والإسلامي بالحزم المستند إلى الفهم والموضوعية.. بل بالعداء المتذرّع بالتطرّف المقابل.

وبناء عليه، فإننا نعيش هذه الأيام أسابيع حرجة، فيها تسابق بين احتمالات التفجير الكبير وإمكانيات احتواء ما يمكن احتواؤه.

والملفات «الساخنة»، وبالذات ملف فلسطين وملف السلاح النووي الإيراني، في منطقة تُنتَهَك فيها الحدود وتتماهى التحديات أكثر من أي وقت مضي، من فلسطين إلى اليمن، ومن العراق إلى لبنان، ومن إيران والخليج إلى السودان.. من ناحية لا تستطيع الانتظار طويلا.

ومن ناحية ثانية، لا تتحمل بعد كل مبادرة واعدة ومنسوفة عودة الديمقراطيات الكبرى لأخذ تفويض ذي طبيعة مختلفة من ناخبيها بناء على أولوياتهم المحلية الضيقة.