أسمر وسمارة

TT

خطر لي أن أجري بحثا عن الغيرة بين الأشقاء. كنت مدفوعة بمشاعر مختلطة من العطف والرثاء بعد أن تلقيت أكثر من رسالة في أسبوع واحد تتمحور حول الغيرة بين الشقيقات. وتأكدت ظنوني من أن تلك الظاهرة هي جزء من التجربة الإنسانية تفرد لها الجامعات برامج وميزانيات للكشف عن جذورها والوصول إلى وسائل لمكافحتها. من بوسطن إلى أوكلاند ومن أوكلاند إلى نيوكاسل يجد الباحثون في الكشف عن أسباب تلك الغيرة وتبعاتها.

ولقد ورد في القرآن الكريم ما كان من أمر قابيل وهابيل ومن أمر يعقوب ويوسف وإخوانه. وفي الأدب العالمي تتناول رواية الأخوة كرامازوف لدستيوفسكي بالسرد والتحليل غيرة الأشقاء أحدهم من الآخر، لكن أطرف ما سمعت عن تلك العاطفة السلبية هو جزء من تراث عائلي تحتفظ به إحدى الأسر المصرية المعروفة وتتوارثه الأجيال. قصة تعود إلى أواسط القرن التاسع عشر عن جد كبير عاش أكثر من مائة عام وأنجب من الأبناء والبنات خمسة وعشرين. في شبابه كانت ثقافة العصر تسمح بوجود العبيد والجواري. وكانت الجارية إن أنجبت أصبحت حرة ولها حقوق الزوجة أم الولد. وفي الرواية كانت للجد جارية من أصول حبشية أحبها وأنجب منها عدة أولاد، كانوا بحكم التركيبة الإثنية ذوي بشرة داكنة السمرة، وقد تكون السمرة الداكنة أحد أسباب الضغينة التي نمت في قلوب إخوانهم بيض البشرة. وقد يكون حب الجد لزوجته السمراء وأبنائها هو سبب تلك الضغينة. وليس هذا هو المهم، المهم هو ما حدث في ما بعد.

حين قرر الجد أن يؤدي فريضة الحج أعد قافلة تشمل أتباعا وخدما وعتادا وطعاما وعدة جمال لركوبهم. فقد كانت رحلة الحج من مصر إلى الأراضي الحجازية تستغرق قرابة ثلاثة أشهر، وفي غياب الأب تولى الابن الكبير شؤون الأسرة، وفي أحد الأيام غلبته الغيرة من إخوانه السمر الصغار. وحين مر بالبيت نخاس يبيع ويشتري العبيد ناداه وعرض عليه أن يبيعه إخوانه الصغار. باعهم وقبض الثمن وبدده قبل عودة أبيه.

وحين رجع الجد جاء كل أولاده للسلام عليه وتهنئته بسلامة الوصول إلا أولاده السمر. وبعد صمت مفعم بالتوتر أنبأه أحد أبنائه بما حدث. فما كان من الأب المكلوم إلا أن امتطى ظهر جواده وحمل سيفه وما لديه من مال وهام على وجهه في القرى والنجوع بحثا عن النخاس يسأل كل من يصادفه عن تاجر عبيد يبيع أطفالا لهم ملامح الأحباش. وفي النهاية عثر عليه وعرض أن يعيد إليه ماله وما يزيد على أن يبيعه أولئك الأطفال. وبمهارة التاجر المجرب شعر البائع بأن المشتري لا بد أن يكون والد الأطفال. فدخل معه في مساومة للحصول على أكبر قدر من الربح في صفقة البيع، فأخذ كل ما معه من مال. ولم يكتف. فطالبه بالجواد. فتنازل له الأب عن جواده. ولم يكتف التاجر فطالب بسيفه فسلمه إياه. وانتهى الأمر بأن عاد الرجل إلى بيته ومعه أطفاله سيرا على الأقدام بلا مال ولا طعام.

في الرواية كما تتوارثها أجيال تلك الأسرة تحقق العدل الإلهي. فالأخ الذي باع إخوانه انقطع نسله ولم ينجب. بينما كبر إخوانه السمر وتعلموا وذاع صيت بعضهم بحيث أصبح فرعهم في الأسرة من أفضل فروعها وأشهرها.