لبنان: تأليف الحكومة وإعادة الاصطفاف

TT

لا تصمد عادة التحالفات بعد تحقيق الأهداف. فبعد النصر، تتبدل الأولويات، تتغير ديناميات اللعبة، تتبدل موازين القوى، الأمر الذي يؤدي إلى إعادة الاصطفافات.

هكذا هي حال الساحة اللبنانية اليوم، خاصة ضمن فريق «14 آذار» الذي يعتبر الوزير وليد جنبلاط «لولبه» ومحركه. وهو الذي كان يحدد اتجاه البوصلة منذ العام 2005، ولا يزال.

بعد كل تصريح لوليد بك، يلزم عادة الكثير من المحاولات من المقربين منه لتفسير ما قاله، وللتصحيح وتخفيف وطأة كلامه. فإن قال هو إن المسيحيين هم «جنس عاطل» في لقاء درزي خاص، فهو لا يجد صعوبة في زيارة بطريرك الموارنة في اليوم التالي لتفخيم دور هذا الأخير في مصالحة الجبل بين الموارنة والدروز.

وهو وعندما يقول هذا الكلام عن المسيحيين، فإنه لا يخرج في الجوهر عما قاله والده الشهيد كمال جنبلاط عن الموارنة على أنهم كتبة لا يعرفون كيفية الحكم (في كتاب «هذه وصيتي»).

هو قادر على أنسنة المقاومة عبر مهاجمتها، ومهاجمة قائدها، بعد وصفها بالشمولية. ليعود بعدها وبسهولة فيقول إن المقاومة هي ضرورة حيوية للبنان، وإن القضية الفلسطينية هي أساس الصراع في المنطقة، وذلك فيما تبدو القضية الفلسطينية وكأنها قضية إسرائيلية داخلية، تتعاون فيها إسرائيل مع مصر.

هو قادر على انتقاد كلام حليفه الأساسي الرئيس المكلف سعد الحريري حول مقولة «لبنان أولا» على أنها تهدف إلى تطويق سورية، وعلى أن هذه المقولة هي ضد العروبة. وهو المثقف الذي يعرف حال العروبة اليوم. فما الذي تغير مثلا في عروبة سورية التي تفاوض إسرائيل عبر تركيا ـ وغدا عبر أميركا ـ كي يطلق سهامه على كلام الحريري سوريًا؟ بكلام آخر، ماذا قدمت سورية للعروبة التي ينادي بها وليد بك منذ وصايتها على لبنان وحتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري؟

هو قادر على إطلاق مشروع عزل المسيحيين مجددا، بعد أن دعا إلى تحالف إسلامي معتذرا من المسيحيين ومعتبرا أنهم أصبحوا أقلية، غير مؤثرة، متناسيا وضع الدروز الذين يشكلون 6% فقط من اللبنانيين.

فما الذي يقلق جنبلاط فعلا، من الصورة الكبرى إلى الصغرى؟

*يعي وليد بك أن ديناميات المنطقة تبدلت مع الإدارة الأميركية الجديدة، وبعد عودة الغرب والعرب إلى سورية. لذلك يحاول إعادة التموضع تحسبا للآتي. وهو الذي يقال عنه إنه قارئ جيد، لكن القراء الجيدين كثر في عصر العولمة وعصر الثورة التكنولوجية. تكمن خطورة إعادة تموضع جنبلاط، في حدة تغيير المسار القديم وسرعة التغيير، كما في النمط المتكرر لسلوكياته وخطابه، الأمر الذي أفقده الكثير من المصداقية. فهل هو يعيد تموضعه، لإبراز نفسه كحاجة ماسة للقوى الإقليمية عند الانعطافات الحادة والأساسية؟ وهل نسي أن الراغبين في هذا الدور كثر، وأنه كلما كبرت اللعبة الإقليمية ـ الدولية، صغُر دور اللاعبين المحليين وكثُر عددهم؟

*يعي جنبلاط أن عدد نوابه وفي حال انتقاله إلى الضفة الأخرى، سوف يغير الموالاة إلى أقلية والعكس صحيح. فهل يعتبر أن هذه نقطة قوة مهمة تساعده على إعادة التموضع؟ ولكن، هل يمكن للمعارضة أن تستوعبه، وإطلاق شعار عفا الله عما مضى؟ وما الذي يمنعه من إعادة التموضع وفي مكان آخر، في حال تبدل ديناميات اللعبة الإقليمية ـ الدولية مجددا؟

*لم يكن التاريخ منصفا مع الدروز، وهذا أمر طبيعي مرت به كل الأمم. فهم كانوا قد خسروا لصالح الموارنة، الحكم، الأرض كما العدد. وعندما تكون لبنان الكبير، أصبحوا ثانويين حتى قدوم كمال جنبلاط الذي أعادهم إلى اللعبة المحلية كما إلى اللعبة الإقليمية العربية. يعاني الدروز اليوم من الهاجس نفسه، لكن ليس مع المسيحيين الموارنة، لا، بل مع ازدياد عدد السنة داخل الجبل ـ خاصة الشوف ـ كما مع الشيعة الذين بدأوا التمدد من الأطراف إلى قلب الجبل أيضا، بالإضافة إلى تراجع عدد الدروز مقارنة مع المذاهب الأخرى. لذلك يرى البك أن الارتباط الدائم مع الأمة الدرزية، يجعله يتخطى المأزق المحلي اللبناني، من هنا أهمية العلاقة مع من يحكم سورية كائنا من كان.

تعرف سورية أنها تشكل اليوم المحور الأساسي لأي حل في المنطقة، خاصة بعد التعثر الأميركي في منطقة الشرق الأوسط. وإلا فما معنى الاندفاعة الأميركية ـ العربية نحوها؟ وما معنى تعيين سفير أميركي جديد في دمشق، مع انتظار وصول السفير السعودي أيضا؟ إلا أن لهذه الاندفاعة ثمنا تحصل عليه سورية. فهي تعطي بالمفرق كما يُقال، وتأخذ بالحزمة إذا صح التعبير.

الوقت اليوم في المنطقة لمصلحة سورية. فكلما انتظرت قبضت أثمانا أكبر. تريد سورية الجولان حتما، لكن عينها على لبنان. من هنا سلوكها غير المعتاد في الانتخابات النيابية الأخيرة. فهي لم تعمل لمصلحة حلفائها. حتى إن البعض اتهمها بأنها ساعدت الموالاة. لكن الذي يعرف فعلا التركيبة اللبنانية، كما نوعية العقل السوري السياسي ـ الاستراتيجي تجاه لبنان، يمكن أن يستنتج أن سورية رابحة في لبنان كائنا من كان في الغالبية النيابية. وإلا فما معنى التحول الجنبلاطي الأخير؟

*في أي حال، يمكن قراءة اتجاه البوصلة لهذه الأمور في التحول الجنبلاطي، كما في تفاؤل الرئيس نبيه بري الذي حدد آخر الشهر الحالي كآخر مهلة لتأليف الحكومة، أو حتى في حركة الوزير السابق وئام وهاب المستجدة. كذلك، في رسالة السيد حسن نصر الله الأخيرة حول عدم طلب حزب الله ضمانة تتعلق إن كان بسلاحه، أو حتى في ما خص القرار الظني للمحكمة الدولية. فهل القرار الظني هو أحد أسباب تأخير تأليف الحكومة، أم إن الصفقات الإقليمية التي تدور في السر والعلن هي السبب؟

هل يمكن تجاهل المسيحيين كما طلب جنبلاط؟

بالطبع لا، لأن قرار العزل لا يتعلق به فقط، بل إن مكونات قرار العزل هي في يد كل من بري ونصر الله والحريري، هذا عدا الأبعاد الإقليمية والدولية. حتى إن قرار العزل، قد يجعل المسيحيين يتوحدون ليصبح في يدهم القدرة على الفيتو كما فعل الشيعة مؤخرا. هذا عدا أن المسيحيين اليوم أنفسهم لا يريدون الانعزال بعد تجربة الحرب الأهلية، مع العلم أن صفة «الانعزال» التي أطلقت على المسيحيين قبل الحرب الأهلية وخلالها، كان من صنع كمال جنبلاط. فماذا عن مواقف الأفرقاء المحليين حول عزل المسيحيين؟

بالنسبة إلى حزب الله يُعتبر العماد ميشال عون الحليف الأهم. فهو الذي استوعب النازحين الشيعة خلال حرب تموز. وهو الذي عادى الكل بسبب ورقة التفاهم مع الحزب. وهو الأصدق مع الحزب.

أما بري، وهو المؤتمن على مفاتيح البرلمان، فلا يمكنه عزل المسيحيين إرضاء لحليفه القديم ـ الجديد، فهو المسؤول الرسمي عن السلطة التشريعية حيث للمسيحيين 64 نائبا، هذا عدا موقف المسيحيين الداعم للمقاومة، خاصة عون.

بالنسبة إلى الحريري، فإن العزل يتناقض أصلا مع تربيته السياسية، ومع روحية البيت الذي ينتمي إليه، هذا عدا أنه رئيس وزراء رسمي مكلف. كذلك ، لا يمكن للرئيس المكلف أن يعزل مسيحيي «14 آذار».

إذًا، لا تتوافر ظروف العزل للمسيحيين كما دعا جنبلاط، حتى ولو عاد للتخفيف لاحقا من كلامه، لكن الضرر قد حصل. على كل، ماذا لو خسر البك المصداقية من الحلفاء، بعد أن خسرها من الأخصام بسبب سرعة وتيرة التحولات في سياسته؟

لكن أين تندرج مشكلة الرئيس المكلف؟

*يُطلب اليوم من الرئيس المكلف أن يغير بوصلته واقتناعاته على غرار ما يفعل جنبلاط. وهذا أمر يؤذي مسيرة الرئيس الواعد. فكيف يُطلب منه زيارة سورية قبل التأليف، ليعطي بذلك كل أوراقه من دون ثمن يقبضه؟ وكيف يمكنه نقض كل ما قاله منذ العام 2005 بعد استشهاد والده؟

* سيكون على الرئيس المكلف انتظار حركية اللعبة الإقليمية، كي يتقدم في عملية التأليف، وهو يعي ذلك. من هنا صمته، أو قلة كلامه، وذلك تحسبا للسيناريو السيئ، أي الاعتذار.

*على الرئيس المكلف أن يرضي حلفاءه وأخصامه. كذلك، عليه أن يفي بوعود حملته الانتخابية، الاقتصادية، السياسية كما الاجتماعية. وفي كل، بعد هناك عقبات كثيرة.

*وأخيرا، على الحريري أن يعي أن سلوكه اليوم في التأليف، وكيفية وتظهير العلاقة مع سورية، سيحددان صورة كل مستقبله السياسي، خاصة بعدما عرفه الشعب اللبناني كزعيم لفريق معين. كما عليه أن يعرف أن الفارق الأهم بين وضعه اليوم وبين وضع والده الشهيد، هو أن والده كان قد بدأ مسيرته السياسية من المملكة العربية السعودية، لكن مرورا بدمشق وصولا إلى رئاسة الوزراء والزعامة. وهو اليوم يبدأ من الزعامة الحصرية للسنة، كما الزعامة الوطنية وصولا إلى رئاسة الوزراء، ومن دون الاضطرار للبدء بدمشق. لذلك يعتقد كل العارفين أن طريقة إخراج زيارته للشام هي التي ستحدد صورته النمطية كزعيم، كما سترسم أصول العلاقة مع الجار والشقيق الدائم، حتى ولو كان هذا الشقيق خصما وعدوا للبعض بصورة مؤقتة.

*عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي