نقل أم توارد؟

TT

طبعة جديدة (مزودة ومنقحة) من كتاب آرنست همنغواي «مهرجان متنقل» الذي يروي فيه ذكريات المرحلة الباريسية في العشرينات. انتحر همنغواي ببندقية صيد العام 1961، وصدر «مهرجان متنقل» العام 1964، ثم في طبعات كثيرة تلت. وحمل الكتاب تلك المقدمة التي أصبحت أشهر منه: «إذا كان لك من الحظ ما يكفي لأن تعيش شابا في باريس، فسوف تحملها معك أينما ترحلت. إنها مهرجان متنقل».

هل اقتبس همنغواي العنوان من مكان آخر أو كاتب آخر؟ هذا سؤال لا يجيب عليه كاتب عربي مستعجل على يومياته، بل مئات النقاد والدارسين وأساتذة الصحافة ومعلمي الأدب المقارن. إنني فقط أغامر بالقول، في مناسبة صدور الطبعة المنقحة، إن همنغواي أخذ العنوان من الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ. أو إن توارد الخواطر يكون صاعقا أحيانا.

عاش زفايغ في باريس في العقد الأول من القرن الماضي. ومثل همنغواي أمضى وقته في الوسط الأدبي والفني. ومثله كان مأخوذا بما تقدمه باريس للفنانين والكتاب. ولكن بدل أن يعيش في «الضفة اليسرى»، موئل الحالمين والشعراء ومشردي الفكر والفنون، عاش في الضفة اليمنى، في فندق يطل على حدائق «التوييري» وأزهارها وورودها.

في مذكراته «عالم الأمس» يفرد زفايغ فصلا لباريس بعنوان «مدينة الشباب الخالد». إليك الأسطر الأولى: «كنت أعرف هذه المدينة التي لا تتعب من خلال زيارتين سابقتين، وأدركت أن كل من عاش هناك شابا لعام واحد سوف يحمل معه ذكرى سعيدة لا تقارن، وتبقى معه مدى الحياة. لا يعرف أحد معنى الشباب كما يعرفه في هذه المدينة التي تمنح نفسها للجميع، لكنها لا تسمح لأحد بأن يقلدها».

طبعا أين تجربة النمساوي من تجربة الأميركي الذي رأى باريس في تلك المرحلة تعج بمواطنيه الهاربين من «سطحية الحياة الأميركية» إلى مدينة بلا قيود وبلا حدود؟ لقد طبعت باريس حياة همنغواي وأدبه، لكنها لم تترك الآثار نفسها في زفايغ. وظلت، في أي حال، المدينة التي ترسل إلى الشهرة أكبر عدد من الكُتَّاب والفنانين والشعراء والمسرحيين. وكان همنغواي أكثرهم شهرة، إلا ربما من جيمس جويس وصامويل بيكيت. أي أبناء الصف الأيرلندي الذين عبروا «البحرين» من دبلن إلى المدينة التي أمضى فيها البعض شبابهم والبعض الآخر بقي هناك حتى الموت، مثل بيكيت وبيكاسو.