المغرب يصلح حقله الديني

TT

أطلقت بعض وسائل الإعلام وصف «إصلاح الحقل الديني» على مجمل ما يقوم به ملك المغرب الشاب محمد السادس في بلاده بخصوص شؤون الفتوى والتشريع والوعظ والإرشاد، وكل المؤسسات المتصلة بهذه الشؤون. جهود الملك المغرب انصبت على «تنظيم» و«ترتيب» الحقل الديني، أكثر مما توحي به عبارة «إصلاح» لدى البعض من دلالات مرعبة ومخيفة تذهب باتجاه التحريف والتمييع والانحراف.

لكن بعيدا عن المناورات اللفظية، فالحقيقة تقول إن ما فعله المغرب في الجوهر هو «تنظيم» و ترتيب للبيت الديني، فمجمل التوجهات التي اعتُمدت والتنظيمات التي أقرت، هي اختيارات من المعروض الإسلامي الحضاري، هي تصعيد لبعض الاختيارات الفقهية القديمة أو اختيارات فقهية جديدة اقتضتها وقائع و«نوازل» طارئة. تجلى ذلك بشكل واضح في ما قُدر لنا الاطلاع عليه حول «مدونة الأسرة والأحوال الشخصية» بخصوص قضايا الطلاق وترتيب هذا الإجراء بين الزوجين و مسائل النفقة والسكنى والزواج الثاني. أما في شأن الفتوى فقد تنبهت الإجراءات المغربية الجديدة إلى خطورة تأثير الفتاوى العابرة للفضاء في تحريك وتجييش الشارع حسب توجهات هذا المفتي أو ذاك، وما يحفل به رأسه من أهواء حزبية أو سياسية أو حتى نزعات المفتي التلقائية نحو التزمت وضيق الأفق، تجده يفتي من وراء البحار والجبال لمتصل يسكن في ريف مغربي أو على أطراف مدينة دون أن يعرف سياق المتصل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ومدى تأثير فتواه عليه في مجتمع المتصل الصغير، وكلنا نعرف أن الفتوى ابنة الواقع ويُفترض بالمفتي أنه يعرف ظروف المستفتي وما يضمر سؤاله من خلافات اجتماعية أو ما يدل عليه اهتمامه ـ أعني المستفتي ـ بهذه الفتوى أو تلك في هذا التوقيت أو ذاك، وهكذا كثير من التفاصيل التي لا علاقة لها بمحفوظات المفتي من النصوص الدينية بقدر ما لها علاقة بإلمام المفتي بمجتمع وبيئة وظرف المتصل أو المستفتي. من أجل ذلك انصبت الجهود المغربية الأخيرة على الإمساك بزمام العملية الاستفتائية من خلال تأهيل وتدريب المفتين، أو على حد قول محمد حمداوي، رئيس حركة الوحدة والإصلاح، الجمعية القريبة من حزب العدالة والتنمية الإسلامي المغربي، إن «التحدي الحقيقي هو التمكن من الرد على طلب المغاربة في مجال الفتاوى بدلا من التوجه إلى مفتي القنوات الفضائية الشرقية».

وما ينطبق على تخوف بعض المغاربة من تأثير فتاوى المشارقة عليهم يجري أيضا في تخوف المشارقة من مفتي المغاربة، فكل طرف هو أدرى بما يجري في شؤونه، وكما أن في المشرق متطرفين كذلك الأمر في البلاد المغاربية، ويبقى في النهاية أن كل قوم أدرى بلغة وهوى وظروف قومهم، وأقدر على التأثير في محيطهم حتى في أبسط الأشياء مثل اللهجة والملابس ورنة الاسم.

لرجل الفتوى والدين تأثير كبير في العالم العربي لا يمكن إغفاله، ومهما تحدث البعض عن قدرات الدولة أو الإعلام الخاص على الجمهور وتوجيهه, الدولة تؤثر من خلال أدوات العنف والسيطرة والمال التي تملكها، والإعلام من خلال اختراقه لكل الحواجز والوصول للزوجين في مخدعهم.

في القديم، وقبل عصر الدولة الحديثة والتنظيمات وانفجار التخصصات العلمية، وثورة المعلومات، يعني قبل نحو مائة ونيف سنة من الآن، كان «الشيخ» يكتسب قيمته الاجتماعية والسياسية من خلال إدماج عدة وظائف في شخصه، فهو القائد الديني الذي يؤثّر على الجمهور العادي من خلال فتاواه التي تتعلق بحياته الشخصية، وهو المصلح الاجتماعي الذي يصلح صراعات الناس وخلافاتهم، وهو المستشار السياسي للحاكم الذي يؤثّر عليه، إن لم يكن يضغط عليه، في توجيه مساره السياسي، وهو فوق هذا كله المؤلف والشاعر والقاضي. وتزداد قدراته بحسب مواهبه وحظوظه الاجتماعية، باختصار كان «الشيخ الديني» هو «المثقف» الفاعل في لغتنا الحديثة، هذا لا يلغي وجود الأدباء والشعراء وربما بعض الفلكيين أو ذوي الزعامات الاجتماعية المعينة، ولكنه يلغي منافستهم للشيخ الديني في جمعه لهذه الصفات والتأثيرات في شخصه، لذلك كانت استعانة رجال السياسة والمجتمع أيضا، في أي موقع كانوا، به، واعتمادهم عليه حتم وليس اختيارا، وتقريبا كل زعماء المشرق والمغرب، في الفترة التي نتحدث عنها، كانوا مخلصين لهذا المناخ الثقافي.

الحقيقة أن تكوُّن طبقة رجال الدين أو «أهل العلم» بدأ في عصر مبكر من التاريخ الإسلامي، ومن أفضل الملاحظات النافذة التي اطلعت عليها في هذا الصدد ما ذكره المفكر المغربي محمد عابد الجابري في أنه يمكن لنا رجع اللحظة الأساسية لتكون هذه الطبقة إلى بداية العصر الأموي مع معاوية، ففي عهد الراشدين، خصوصا عهد أبي بكر وعمر، كان رأس الهرم السياسي هو نفسه رأس الهرم الديني العلمي، فالخليفتان أبو بكر وعمر كانا هما قادة الأمة بالمعنى السياسي وهما قادة الأمة بالمعنى الفقهي والديني، وكذلك بالنسبة إلى الشعب كان الجيش هو الرعية والرعية هي الجيش، حصل الانفصال بين طبقة الحكام والعلماء وبين الجند والرعية في عهد معاوية لظروف تاريخية معقدة، ومنذ ذلك الوقت أصبحت المؤسسة الدينية تكوين خاص.

هذه المؤسسة الدينية لم تكن مفروضة على المجتمع، بل كان المجتمع هو من يطلبها في وجه السلطة السياسية وكانت هذه المؤسسة هي من يضمن استمرار امتثال الأمة المسلمة للشرع، وهي أيضا من يجسد هذه الشريعة فيهم من خلال القضاء، وهي من يلاذ به من جور السلطة.

هذا كلام جرى طيلة التاريخ الإسلامي، له استثناءات وعليه ملاحظات، ولكن هذا ما جرى، لكن ومن نحو مائة سنة ونيف تغير العالم كله، ومنه عالمنا الإسلامي، هدمت نظريات كثيرة وشيدت محلها نظريات، وولد مفهوم الدولة الحديثة ومفهوم المواطنة وتأسست عقود اجتماعية سياسية جديدة، وحتى في عالمنا الإسلامي خرج لنا رجال الإصلاح والثورة، وجلهم معممون أو نصف معممين، يطالبون بالحداثة.

وبعد هذه المسيرة الطويلة ما زال لطبقة رجال الدين تأثير واضح في المجتمع، وهذا شيء طبيعي في مجتمعات متمسكة بهويتها الدينية، بعض رجالات هذه المؤسسة قدموا إسهامات ثمينة في ملاءمة العصر مع الشريعة وإزالة أسباب التصادم بينهما، من خلال فقيه واسع النظر رحب الصدر عميق الغور، مثل الشيخ محمود شلتوت أو الشيخ محمد أبو زهرة أو الشيخ الطاهر بن عاشور أو، في السياق السعودي، الشيخ عبد الرحمن بن سعدي. وبعضهم ظل مرتبكا أمام تغيرات العصر وتحدياته فقرر إما المواجهة العنيدة إلى آخر نفس وإما إعلان التمرد على المجتمع ومؤسساته، ومنها المؤسسة الدينية، ليغرد خارج السرب فينعزل لوحده، أو يقرر إعلان الجهاد.

عقلاء السلك الديني لهم دور كبير في طمأنة ذعر البعض في المجتمعات الإسلامية من التحولات والتحديثات التي يقفون أمامها حيارى، هذا الذعر الذي يصل أحيانا إلى تردد في قبول تحذيرات كل منظمات الصحة العالمية من خطر انتشار وباء مثل أنفلونزا الخنازير في موسم الحج المزدحم، حتى خرج مفتي مصر الشيخ الفقيه علي جمعة ومعه شيخ الأزهر ليصدقا على «التحذير المنخفض» لوزراء الصحة العرب. كل هذا بسبب حساسية الناس العالية تجاه المسائل الدينية، وهي بالمناسبة، حساسية طارئة ومفتعلة لم تكن في السابق بهذه الدرجة من التهيج. أحيانا نطّلع على فتاوى غاية في العقلانية والواقعية، ولكن لا نجد لها صدى في المجتمع، أو نجد أن الفتوى كلما كانت أكثر واقعية كانت أقل شعبية! ونرى قيادات المؤسسة الدينية أو بعضهم يتكلمون بشكل معقول وهادئ ولكن الأتباع منفلتون وهائجون، كما هو مدلول كلام بابا الأقباط في مصر الأنبا شنودة في حواره الأخير مع هذه الجريدة حيث تحدث عن سوء العلاقة بين المسلمين والأقباط وقال إن علاقته جيدة وممتازة مع شيخ الأزهر ولكن ما يجري بيننا لا ينعكس على الناس. قال ذلك بحسرة! وهذا التطرف الذي يتحدث عنه الأنبا شنودة ينطبق على مسلمي مصر وأقباطها أيضا، الكل أصبح ضيق الصدر.

وبعد: الحقل الديني، بكل مؤسساته، وليس الدين نفسه، محتاج إلى إعادة تنظيم و إصلاح، بما يكفل عدم تحوله إلى أداة تعطيل وفوضى، لا نريد الحديث عن ابتلاع الدولة له ولكن لا نريد الحديث أيضا عن ابتلاعه هو للدولة والمجتمع، تنظيم يكفل قيامه فقط بوظيفة الدين الأساسية: رحمة للعالمين. وهنا يأتي دور الدولة المسلمة الرشيدة التي «تحرس الدين وتسوس الدنيا» كما كان يقول الأوائل، في تمييز ذكي ومبكر وعفوي بين مجالَي الدين والدنيا.

ما قام به المغرب من إصلاح لحقله الديني خطوة تأسيسية تتجاوز التفاصيل إلى الأطر الكبرى التي تحدد الأرض التي يقف عليها المجتمع والسماء التي يرنو إليها.