فقدوا البوصلة كما فقدوها بعمليات الفاو.. فلا تدعوهم

TT

حتى قبيل بدء المناظرات التلفزيونية بين المرشحين للرئاسة، كان المسؤولون الإيرانيون منضبطين أكثر من اللازم في السير مع الهالة الدعائية للنظام، وكانت المكابرة في كل شيء ملازمة لسلوك العديد منهم. مثلما كانوا عشية احتلال الفاو، قبل أن تنقلب المعادلات رأسا على عقب، وتفقد القيادات الإيرانية وقواتها البوصلة إلى درجة انهيار قواتهم في عموم قواطع العمليات. تحت ضغط شديد للقوات العراقية وبفعل مخادعة تستند إلى معلومات دقيقة.

من الحوادث المثيرة في ملحمة الفاو، أن مخططي المخادعة العراقيين أرادوا إقناع القيادة الإيرانية، بتوفر معلومات لدى القادة العراقيين تفيد بوجود نوايا إيرانية لشن هجوم كبير من منطقة الفاو، وقرروا جلب قوات منتعشة من مناطق العمليات الشمالية والوسطى لاستبدالها بقوات متعبة في الفاو استعدادا لصد الهجوم. وتلقف الإيرانيون هذه النتف من المعلومات الموجهة والمصممة لستر عملية حشد ضخمة للقوات المخصصة لاجتياح منطقة الفاو. وظن المسؤولون الإيرانيون أن المعلومات التي وصلتهم ستتيح لهم تحقيق أهداف خطيرة في مناطق أخرى تدور فيها معارك شديدة. فقاموا بإعداد خطة مخادعة سطحية، أرسلوا بموجبها أرتالا من سيارات الحمل العسكرية مغطاة بالقماش (الجادر)، تتقدمها سيارات لعناصر الشرطة تطلق صافرات جلب الانتباه، خلافا لكل متطلبات الأمن. وذلك لتعزيز معلومات العراقيين (المفتعلة) عن وجود نوايا هجومية إيرانية، بالتظاهر بدعم قوات الضربة في الفاو. لكنهم لم يحسبوا أن عناصر الاستطلاع العميق العراقية كانت تشاهد عن قرب شديد المركبات تتنقل خالية من الجنود والمعدات. فحصل ما حصل واجتاحت القوات العراقية حصون قوات النخبة من الباسداران في الفاو، ووقع الهجوم كصاعقة أفقدت القيادات الإيرانية توازنها، وانقلبت المقاييس بشكل (مذهل) على كل شبر من أكثر من ألف كيلومتر من الجبهة. ولم يعد العراقيون يواجهون مقاومة تذكر في سلسلة الهجمات، التي جُمع خلالها أكثر من عشرين ألف أسير، في زمن ولاية خامنئي رئيسا للجمهورية. فخضعوا لقرار وقف الحرب، بعد أن قضى مئات آلاف الشباب والصبية الإيرانيين تحت الضغط والإغواء بأن المفاتيح المعدنية التي توزع عليهم قبل بدء الهجوم ستفتح لهم أبواب الجنة، وأن مراقد الأئمة خلف التلال، فيما تبعد عنهم مئات الكيلومترات، وكان العراقيون على علم مسبق بنواياهم وأعدوا لهم العدة.

وهاهم أنفسهم يسوقون إيران مرة أخرى إلى مصير مجهول. بعد أن تناسوا المُضحكات المبكيات في حرب السنوات الثماني، وتجاهلوا مؤشرات فقدانهم البوصلة مرة أخرى. فما كانوا يُسّوقون عبر أتباعهم، لبلوغ هدفهم النووي، من أن العرب خائفون من حصول ضربات عسكرية غربية أو إسرائيلية من رد فعل إيراني، ومن تفجر براكين غضب شعبي موالية لإيران، ثبت أنه ليس إلا هراء، بعد أن أصيب أتباعهم بالإحباط من حجم التداعيات داخل نظام الخميني نفسه. وما يقال عن أن ضربةً للمنشآت النووية الإيرانية ستؤدي إلى تدمير المنطقة بات موضع سخرية تامة. فعليهم أولا أن يكسبوا رضا شعوبهم الذي أصبح هدفا لا مجال لبلوغه، إلا في الخضوع لإرادة تحول ديمقراطي لن يبقي شيئا مما هم عليه سائرون.

وفقدوا البوصلة في لبنان، عندما غرّهم استيلاء ميليشيا حسن نصر الله على بيروت، ذلك الاستيلاء الذي ارتد عليهم في الانتخابات اللبنانية. ولم يكن اجتياح بيروت المؤقت قد تسبب في الفشل الذريع وحده، بل عززه إعلان نصر الله عن ثقته باستعداد إيران لتسليح الجيش اللبناني، فارتد عليه تصريحه.

ولم ينحصر فقدان البوصلة في المحيط العربي بلبنان، فقد أدرك كثير ممن غرر بهم في البحرين حقيقة نظام نُخر من داخله وعادوا إلى رشدهم. ولن تؤدي الإعدامات السريعة لمعارضي حكام طهران من البلوش السنة باتهامات لم يسمح للعالم الحر بالاطلاع على حيثياتها، إلا إلى المزيد من التوتر. وخرج الأحوازيون من التعتيم الذي فرض عليهم، ليعربوا عن خصوصياتهم الخاصة وهويتهم الثقافية التي لا يمكن أن تذوب في حوض هيمنة الاستبداد. وما يقوم به شباب أحوازيون (شيعة)، من نشاط إعلامي، يؤكد أن حكام طهران قد فقدوا البوصلة العربية حتى على من هم تحت سيطرة نظامهم.

لقد ارتكبت القيادة العراقية خطأ في نهجها عندما لم تستثمر نتيجة حرب السنوات الثماني لتسليط الضوء على الخطر الذي يمثله نهج الخمينيين، بدل التمسك بأسلحة دمار لم تجلب للعراق غير الدمار. واليوم أفقدت الثورة البيضاء الخمينيين بوصلتهم وباتوا في دوامة لا يفصلها عن المفاصلة فاصل قوي، فهل يتركهم العالم يلتقطون أنفاسهم إن لم يستجيبوا للمطالب الدولية؟