من السياسة إلى الانفلات الأهوج

TT

مر في هيئة الكنيست بداية هذا الأسبوع اقتراح قانون، تعارف على تسميته بقانون «النكبة»، وهو يعد تغييرا شاملا لاقتراح القانون الذي تقدم به حزب «يسرائيل بيتينو» الذي يترأسه ليبرمان، وليس مجرد تعديل أو حتى توسيع له. وعند فحص بنود الاقتراح الجديد يدهش الفرد لماذا تم أصلا سحب اقتراح القانون الأصلي، إذا كنا بصدد قانون أكثر شراسة وأكثر قمعا وتحديا لحريات أساسية مثل حق التعبير، حرية العقيدة، حرية المشاركة في الحياة السياسية وحرية التنظيم. وقد عرض هذا القانون كجزء من قانون «أساس الميزانية»، تحت بند «مصروفات ممنوعة».

يتحدث القانون عن منع أو تجميد الميزانيات الحكومية المستحقة لسلطات محلية أو لمؤسسات تعمل ضد إسرائيل كدولة للشعب اليهودي، أو تعمل ضد الطابع الديمقراطي للدولة، تؤيد الكفاح المسلح والأعمال «الإرهابية» ضد الدولة، تحرض للعنف ضد الدولة أو تمس بعلمها أو برموزها الوطنية، ولا يشرح القانون إذا كنا بصدد نشاط «يعمل» ضد أو مجرد تعبير «تصريح، محاضرة، كتاب» يتنكر لذلك.

القانون ببساطة يُعتبر عملية محو للسياسة في إسرائيل، إذ أنه يُخرِج من الشرعية السياسية كل ما يدخل في دائرة الإجماع الصهيوني، ويبقي ضمن الشرعية السياسية تلك الأمور التي يختلف عليها المجتمع الإسرائيلي وينقسم داخليا. الإجماع الصهيوني في إسرائيل يتحول إذن، وشيئا فشيئا من المجال السياسي إلى ما يشبه الدين، إلى ما يشبه المقدسات. ويخرج من يكفر بهذا الإجماع عن القانون تماما كما يكفر الخارج عن الإجماع الديني في الأنظمة المتزمتة دينا. ويُعتبر أغرب بنود القانون تلك التي تعاقب كل من «يعمل ضد الطابع الديمقراطي للدولة»، إذ يعرف كل مطلب أو برنامج أو مشروع سياسي يطالب بالمساواة بين العرب واليهود بأنه عمل ضد الديمقراطية! المساواة وفق السياسة الإسرائيلية هي قيمة مناقضة للديمقراطية، وطبعا لا أحد يستطيع الدفاع عن ذلك بواسطة قوة المنطق السياسي، بالتالي إسرائيل تحتاج لقوة المقدس، ويفرض المقدس بالقانون.

بالتالي لا يُعتبر القانون المذكور جزءا من موجة العنصرية الحالية، فقط لأنه اقتراح عنصري، فالعنصرية جزء بنيوي من السياسة الإسرائيلية، أي أننا نستطيع أن نعتبرها «صفة» للدولة، وليست «حالة»، لكنه يُعتبر جزءا من الموجة العنصرية الحالية لأنه يحمل صفاتها، فهي أولا وأخيرا موجة عنصرية لا عقلانية، تفتقر إلى أوليات العقل السياسي، وهي موجة هوجاء، تعتمد أدنى الغرائز الإنسانية، تعتمد الكره، احتقار الآخر وتحقيره. من يسمعهم يوميا على منبر الكنيست وفي جلساتها، من يسمع اقتراحاتهم، من يسمع صراخهم، من يسمع مفرداتهم، يرَ هوسا وليس سياسة، يرَ انفلاتا وليس سياسة، يرى مشاعر مختلطة من الكراهية والحقد والخوف وحتى الغيرة، يرى باختصار مجتمعا، وقيادة مجتمع فقدت بوصلتها تماما. لقد بدأت مرحلة «الابتذال في العنصرية»، حيث انتهت أو بالأحرى فشلت المرحلة الأخيرة من «سياسات العنصرية» الإسرائيلية (العقلانية)، تلك السياسات التي تُوجت بالإعلان الرسمي عن العرب كـ«خطر استراتيجي»، والتي ترجمت نفسها عبر مخططات سياسية أهمها: «اغتيال» قيادات المستقبل واستهداف وعي الشباب: مخطط الخدمة المدنية، واستهداف القيادات الوطنية الحالية.

لقد حاولت إسرائيل جهدها، عبر مقترحات ومخططات ومؤتمرات لكبار استراتيجييها ومحلليها وضباطها، تقارير سرية وغير سرية، تحريضات علنية، تضييقات اقتصادية، وعبر فكفكة الحكم المحلي للعرب، أن تثني العرب في الداخل عن الخط السياسي الوطني الذي هم ماضون فيه، وتفاءلت إسرائيل خيرا من السلطة الوطنية الفلسطينية ومن الجو الفلسطيني ـ العربي العام، في أن يكون حاضنا ملائما لثقافة الخنوع والانكفاء السياسي للفلسطينيين في إسرائيل. لكن هذا.. وببساطة لم يحدث.

فشهدنا مشاهد مسخة مثل: انتصار سياسة الكراهية لليبرمان، طرح عدة قوانين تتلخص في محاصرة الفكر أو الشعور أو النشاط السياسيين، وتريد مرة شطب لافتات ومرة شطب مصطلح، ومرة شطب عضو كنيست وامتناع وزير عن مقابلته لأن الآراء السياسية لعضو الكنيست طلب الصانع لا تعجب الوزير لانداو، ومرة سنراها الأسبوع المقبل، ومرة الأسبوع الذي بعده.

نكاد لا نستفيق من فكرة مبتذلة إلا ويصادفنا فورا ابتذال آخر، وتكاد لا تُستوعب سرعة الإبداع، أو يقال هنا «تفتق» الذهنية الإسرائيلية.. وأخطرها هذا القانون الأخير، الذي لا يخرج النكبة أو الكفاح المسلح فقط من الشرعية، بل إنه يُخرِج السياسة برمتها من الشرعية.

في النهاية، علينا أن نقول إن سياسات الكره والهوس العنصري، ليست بأقل خطورة من العنصرية «العقلانية»، حيث تستطيع الأولى أن تخيف الناس وترعبهم فعلا، لكنها مع ذلك تبقى أقل صعوبة في فضحها دوليا، وهي مهمة علينا أن نأخذها بجدية أكبر من الآن فصاعدا.

وتبقى المهمة السياسية الأولى أمامنا جميعا استنفار الخطوات النضالية كافة مع شعبنا، أمام البيت الذي يُهدم والأرض التي تصادَر.

وعلى إسرائيل عندما تقول إنها « لن تسمح لدافعي الضرائب بتهديد الدولة»، أن تعرف أن دافع الضرائب لا يدفعها لمن يقوم بمحاربة وجوده وباحتقاره وحتى بالابتذال في عدائه.

* عضو الكنيست الإسرائيلي عن التجمع الوطني الديمقراطي