المدينة التي لم أحب

TT

ثمة أمر غريب. لقد سافرت، طوال 48 عاماً، في طول البلدان وعرضها. في جهاتها الأربع. في العواصم وفي القرى. في الصخب وفي زهور بادن بادن. في المناسبات التي تمنحك كل مواضيع الأرض للكتابة عنها، وفي البحث عن المناسبات، والمواضيع. وأي شيء. أحببت بلداناً وقرى ومدناً كثيرة. فالشباب حب بلا حساب. تحب زهرة فتحب من أجلها جميع حدائق المدينة. تبهرك الجالسة على حافة الدانوب فتعشق النيل والأمازون والمسيسيبي. السفر حب. أو نصف حب. أو في أسوأ الحالات، بلا كره.

ثمة أمر غريب، إلى الآن لا أستطيع أن أنسى أنني لم أحب بوخارست. لا شيء أحببت في بوخارست. كان يرافقني، بادئ الأمر، مندوب «وزارة الإعلام». لا أنسى جمود وجهه إلى الآن. ثم حلت عطلة الأسبوع فتركني، ومضيت في مدينة باهتة، عريضة الشوارع، باهتة، ضخمة المباني، باهتة، بلا ناس وبلا فرح، وبلا أطفال، فقط شرطة سرية تطل من خلف الزهور في الحدائق. ومن خلف المصابيح. ومن خلف المدارس. ومن خلف الساقطات. وكان الطقس ثقيلا والمناخ دبقاً والرومانيون عجرفة وغروراً وفظاظة. موظف «الاستقبال» في الفندق فظ. وخادمة الغرف مفوضة في لجان الشبيبة للحفاظ على الزعيم الرفيق الحبيب نيكولاي. طبعاً نيكولاي تشاوشسكو.

طوال عطلة الأسبوع حاولت البحث عن موضوع أو عن صحيفة أو عن أنس أو عن مقهى أو عن تكَّاية، ولم ألقَ سوى العجرفة والغرور وصوت مرافقي يطن في أذني: نحن أجمل لغة في العالم. نحن أهم دولة في العالم. زعيمنا أعظم زعماء العالم.

ولازمت فندقي حتى موعد القطار التالي. ثم تركت الصالون ولازمت غرفتي، وكانت بوخارست تلاحقني بسخفها وغرورها وثقتها بأن الرفيق الأعظم هو تاج الكون ومسرة الحياة. وكان نيكولاي قد خصص لكل مواطن 300 غرام من الخبز كل يوم. ومئة حارس يومي. وألف عسس في الليل. ودائرة لإحصاء الأنفاس ودائرة لحبسها ودائرة لخطفها.

وبدا موعد القطار بعيداً، دهرا كاملا. وغادرت الفندق «المهم» كمن يغادر عاصفة من الغبار والمطر. ولم أجرؤ على التنفس إلا بعدما صفَّر القطار صفير عبور الحدود وتغير الأعلام وقمت وتطلعت من النافذة لأتأكد أن بوخارست أصبحت ورائي. وأصبحت ورائي ساحة الجمهورية وبولفار «ماغيرو» وأحاديث مرافقي عن اللغة الأولى في العالم والزعيم الأول في الأرض. وكان طبعاً يقصد الرجل الذي يسمى سراً «دراكولا» في البلد الذي خرجت منه أسطورة مصاص الدماء.

عندما اضطربت رومانيا كان يكفي أن يعلن ميخائيل غورباتشوف «إننا لا ننوي التدخل»! وبعد ساعات كانت بوخارست تزحف على بوخارست. ودراكولا يُقتل في محاكمة صورية بشعة ووقحة. وإلى جانبه ايلينا، سيدة الفرو. ولم أحب بوخارست. حتى تشاوشسكو بدا أكثر وداً منها. لم أحبها. وليس من الضروري أن تكون كل الذكريات جميلة.