نحن نقترب دائما!

TT

الكاتب دائما يحاول أن «يقترب» من الحقيقة عندما يضع عينيه على كل لون.. وأذنه على كل صوت.. وأنفه على كل عطر.. وأصبعه على كل جسم.. ثم يقول: إنني هنا.. إنني موجود أيضا.. أرى وأسمع وأتذوق.. وأحب وأكره..

وبعد ذلك كله يمسك قلمه ليقول: فيضع قلمه على الورق.. ويترك القلم يجري وراء ظله.. أو يتركه يلاحق لعابه الأسود..

وكما أن العين لا بد أن ترى، والأذن لا بد أن تسمع والأنف لا بد أن تشم.. والقلب لا بد أن يدق فكذلك الآخرون..

والكاتب لا بد أن يقول ما في نفسه.. وما في نفوس قرائه.. لكن الكاتب فقط «يقترب»..

ولذلك فهو لا يستطيع أن يرى كل شيء، وأن يسمع كل شيء، وإنما فقط بعض الأشياء وبعض الأصوات وبعض المعاني..

وليس في استطاعة أحد أن يقول كل شيء عن أي شيء.. أو حتى عن شيء.. وإنما فقط أن يقول القليل عن القليل.. فالكاتب ككل إنسان، محدود.. لأنه يفكر في الدنيا من خلال بضعة ثقوب.. بضع فتحات؛ عينيه وأذنيه وأنفه وهذه الفتحات ضيقة.. وهي فتحات في حوائط من نوع غريب اسمها: الأمل واليأس والخوف والحب والكراهية..

فمن وراء هذه الحوائط نلمس الدنيا.. وتلمسنا الدنيا.. وهذه الحوائط تعزل الدنيا عنا.. وفي نفس الوقت تجعلنا نراها أوضح.. إن هذه الحوائط مثل زجاج النظارة.. مثل زجاج الميكروسكوب.. والتلسكوب.. هي حوائط شفافة تقف بيننا وبين العالم حولنا.. ولكنها تقربه وتوضحه.. فهذه الحوائط ترى بعيوننا، ونرى بعيونها كما قال الشاعر القديم..

ومعنى ذلك أننا نرى الدنيا من خلال ثقب في حائط.. أي من عين بعد عين..

إلى هذه الدرجة يصبح عالمنا محدودا.. عالم الكاتب والفنان.. ولكن الكاتب، رغم ذلك يحاول أن يرى أبعد، ويسمع أعمق، ويلمس أرق، ويشم أكثر..

ولا أحد قال كل شيء.. ولا استطاع! وكل كاتب يحاول.. ويكفي أنه حاول..

وما أجمل ما قال الأديب العظيم أوسكار وايلد، عندما عاب الناس على أحد عازفي البيانو أنه لم يحسن العزف فقال: لا تلوموا العازف، إنه يبذل أقصى ما يستطيع!

وكلنا ذلك العازف.. وكلنا يعزف على أوتار نفسه.. ليسمعه ويراه الآخرون!