ولي عهد البحرين.. التقط الحلقة الصحيحة في اللحظة المناسبة

TT

كثيرون من الذين استهجنوا ما تضمنه المقال الذي كتبه ولي عهد مملكة البحرين الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة في صحيفة الـ«واشنطن بوست» الأميركية، ربما أنهم لم يقرأوا هذا المقال أصلا أو أنهم قرأوه دون أن يدققوا فيه جيدا، ولهذا فإنهم ذهبوا بعيدا وتحدثوا عن أمور ينطبق عليها تعبير «التغميس خارج الصحن» من بينها مسألة الانفتاح على هذه الحكومة الإسرائيلية والانخراط في «التطبيع» معها، بينما هي مستمرة في مواقفها اليمينية المتطرفة، وتواصل الإصرار على مواصلة الاستيطان وعلى مواصلة التمسك بالقدس عاصمة إسرائيل الموحدة والأبدية.

إن هذا التصور الذي ذهب إليه البعض دون أن يقرأوا مقال سمو ولي عهد مملكة البحرين المشار إليه غير وارد على الإطلاق، فهذا المقال كان موجها بالأساس إلى الشعب الإسرائيلي وليس إلى الحكومة الإسرائيلية، وهدفه الوصول إلى الجبهة الداخلية الإسرائيلية وإقناعها بأن السلام مصلحة مشتركة للعرب والإسرائيليين على حدٍّ سواء، وبأن ما يصلها من حكومة بنيامين نتنياهو عن الدول العربية ومواقفها غير صحيح على الإطلاق، وأن المبادرة التي تقدمت بها هذه الدول ليست من قبيل المناورة، وأنها تشكل الفرصة التاريخية للانتهاء من الحروب وسفك الدماء، وتشكل أيضا البداية لمستقبل زاهر لهذه المنطقة ولأجيالها الجديدة. ولهذا فإن المؤكد أن غضب اليمين الإسرائيلي، المشارك في حكومة بنيامين نتنياهو والذي خارجها، إزاء ما جاء في هذا المقال الذي نشرته واحدة من أهم الصحف في العالم، أكثر كثيرا وأشد من غضب بعض العرب الذين كالعادة لم يقرأوا ما كُتب، والذين إن هم قرأوه فإنهم لم يروا فيه إلا ما في مخيلاتهم. ففلسفة هذا اليمين، بل فلسفة الذين حكموا إسرائيل بمعظمهم، تستند على ضرورة أن يبقى الإسرائيليون يشعرون بأنهم مهددون بالفناء وبمحارق بشرية جديدة لتبقى هذه الدولة مستنفرة باستمرار، وليبقى هذا الشعب الذي هو صاحب تجارب مريرة عبر كل حقب التاريخ يعيش عقلية القلعة الدفاعية المحصنة.

من ديفيد بن غوريون وحتى رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو، مع استثناء إسحق رابين بالطبع، فإن جميع حكام إسرائيل كانوا وما زالوا يحرصون حرصا شديدا على ترسيخ القناعة التي لا تقبل التغيير بأن العرب مناورون ومراؤون وأنهم يتحدثون عن السلام وهم يخبئون خناجرهم المسمومة وراء ظهورهم، وأن هدفهم هو القضاء على الدولة الإسرائيلية وإلقاء الشعب اليهودي في البحر، ولذلك فإنه على الإسرائيليين أن يبقوا على أصابعهم فوق «نوابض» أسلحتهم، فهم إما قاتلون أو مقتولون، ولذلك فإنهم يجب أن يكونوا قاتلين وليس مقتولين. وهنا فإنه لا بد من التذكير بأن جنرالات إسرائيل وقادتها كانوا الأكثر ترحيبا بزمجرات إذاعة «صوت العرب» في خمسينات وستينات القرن الماضي، والأكثر ارتياحا لصرخات معلق هذه الإذاعة طيب الذكر أحمد سعيد: «تجوع يا سمك.. وسنلقي اليهود في البحر»، فهذا كان يعزز عقلية القلعة لدى الإسرائيليين، وفي الوقت ذاته فإنه كان يعطي مصداقية للادعاءات الإسرائيلية القائلة بأن الإسرائيليين إزاء محرقة جديدة، وأنه على العالم الغربي أن يساندهم ليجنبهم ويلات هذه المحرقة الجديدة.وحقيقة أن الرئيس المصري الأسبق أنور السادات هو أول من اكتشف أهمية الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وأول من اتجه إلى هذه الجبهة لإقناعها بأن مصر لا تناور وأنها تسعى وتريد أن تكون حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973 آخر الحروب، وأن السلام هو مصلحة مشتركة للعرب والإسرائيليين، وأن استمرار هذا النزاع دون نهاية سيكون مدمرا للإسرائيليين وللعرب، وبخاصة أنه لا توجد أي إمكانية لأي طرف حتى وإن رغب في هذا أن يدمر الطرف الآخر.

لقد رفع السادات في تلك الفترة المبكرة تماشيا مع هذا التوجه شعاره المعروف: «إنني أريد إنزال الإسرائيليين من أبراج الدبابات حتى أستطيع التكلم إليهم»، وحقيقة أنه حقق نجاحا باهرا في هذا المجال، حيث ظهرت حركة «السلام الآن» الإسرائيلية التي قادها الجنرال السابق في الجيش الإسرائيلي ييغال يادين، والتي من خلال الثقل المؤثر الذي حققته في الكنيست الإسرائيلي شكلت أحد العوامل الرئيسية لإجبار رئيس الوزراء الأسبق مناحم بيغن، الذي هو أكثر يمينية وتطرفا بآلاف المرات من بنيامين نتنياهو، على توقيع اتفاقيات كامب ديفيد المعروفة وعلى تفكيك المستوطنات والانسحاب من سيناء المصرية. والحقيقة أيضا أن العاهل الأردني السابق الملك حسين، رحمه الله، كان قد أعطى اهتماما مميزا وكبيرا للجبهة الداخلية الإسرائيلية مع بدايات عملية السلام التي انطلقت بعد مؤتمر مدريد، وهو تمكن من تحقيق إنجازات فعلية باستخدام هذه الجبهة ضد تطرف اليمين الإسرائيلي، حيث ألزم بنيامين نتنياهو الذي كان رئيسا لوزراء إسرائيل في عام 1996 بالتخلي عن مشاريعه في جبل أبو غنيم في جوار مدينة القدس الشرقية المحتلة. وفي الاتجاه ذاته فإن منظمة التحرير كانت قد أولت عناية فائقة للجبهة الداخلية الإسرائيلية حتى عندما كانت لا تزال في بيروت، ثم عندما انتقلت إلى تونس، والمفترض أن كل من يتعاطى مع هذه المسألة إن عن قُرب أو عن بُعد يذكر تلك الحوارات في ثمانينات القرن الماضي بين هذه المنظمة ورموز وقوى وأحزاب اليسار الإسرائيلي، التي تنقلت على مدى كل الأعوام التي سبقت اتفاقيات أوسلو بين عدد من عواصم أوروبا الشرقية.

كان الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس ولا يزال أكثر القادة الفلسطينيين حماسا للعمل المنظم والدؤوب والتواصل على هذه الجبهة، ولعل ما تجدر الإشارة إليه أنه تمكن من تحقيق اختراقات في غاية الأهمية في هذا المجال جرى استخدامها بجدارة منقطعة النظير لإسقاط حكومة بنيامين نتنياهو في عام 1996، التي كانت اتخذت مواقف متعنتة إزاء عملية السلام، كالمواقف التي تتخذها حكومته الحالية، التي سيكون مصيرها المصير ذاته إن هي بقيت تناور وتتلاعب وتتمسك بمواقفها الحالية.

والمؤسف حقا أن الفلسطينيين بعد إسقاط حكومة نتنياهو السابقة بالاستناد إلى الجبهة الإسرائيلية الداخلية والدعم الأميركي الكاسح في عهد الرئيس السابق كلينتون قد أهملوا هذه الجبهة وتركوها لاستفراد اليمين الإسرائيلي، بل إن حتى فلسطينيي الداخل (1948) الذين كانوا لعبوا أدوارا فاعلة في هذا المجال قد تحولوا هم بدورهم نحو الانكفاء وترْك الساحة تتناوبها من جهة مجموعة عزمي بشارة، التي هي مجموعة صغيرة وغير مؤثرة، ومن جهة أخرى تيار الإسلام السياسي المتأثر بمواقف حركة حماس والمتناغم مع سياساتها.والآن وقد بدأت الولايات المتحدة هذا التحرك الفاعل والجاد لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط وحل القضية الفلسطينية، وفقا لما كان قاله الرئيس باراك أوباما في خطاب جامعة القاهرة، فإنه شيء في غاية الأهمية أن يتحلى ولي عهد مملكة البحرين الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة بكل هذه الشجاعة، وأن يطرح الطرح الذي طرحه في مقال الـ«واشنطن بوست» المشار إليه، وأن يتوجه إلى الجبهة الداخلية الإسرائيلية بالخطاب الذي توجه به إلى هذه الجبهة.

إنه على العرب إن هم أرادوا مساندة الجهود التي يبذلها الرئيس باراك أوباما وتبذلها إدارته أن يفعلوا ما فعله سمو ولي عهد مملكة البحرين، وأن يتجهوا كما اتجه هو إلى الجبهة الداخلية الإسرائيلية، فإسرائيل دولة ديموقراطية شئنا أم أبينا، ورأي الشعب الإسرائيلي هو الحاسم في اتخاذ القرارات التاريخية الهامة، ولذلك فإنه على الفلسطينيين أن يستعيدوا لياقة الاتصال مع هذا الشعب مرة أخرى، وأنه على الدول العربية أن تدرك أهمية هذه الجبهة، وبخاصة في هذا الوقت بالذات، حيث الإسرائيليون ينتظرون أصواتا غير صوت محمود أحمدي نجاد وغير صوت حسن نصر الله وغير أصوات الذين ما زالوا يتعلقون بمرحلة شعارات: «تجوع يا سمك وإلى الفناء يا إسرائيل».