تجليات الملك محمد السادس الدبلوماسية

TT

لا جدال في أن جلالة الملك محمد السادس ينتمي إلى ذلك الجيل الجديد من قادة العالم الذين آلت إليهم مقاليد السلطة في بلدانهم مع مطلع الألفية الثالثة أو قبلها بقليل.

ولا تعني صفة «الجدة»، فيما يخص بلادنا على الأقل، القطيعة الكلية مع تراث الماضي، بقدر ما تشير إلى اتباع نهج مختلف ورؤية مغايرة في تدبير شؤون الحكم على الصعيد الداخلي، واعتماد أسلوب بديل في التفاعل والتعاطي مع القضايا والعلاقات الدولية التي أصبحت متسمة بمزيد من التعقيد واستفحال الأزمات والتحديات وأسباب التوتر.

ولست هنا بصدد تقييم العشرية الأولى من العهد الجديد الذي برزت معالمه الفارقة مع القرارات الكبرى وأوراش الإصلاح الجريئة التي أطلقها عاهلنا الكريم في غضون الأسابيع الأولى التي تلت ارتقاءه عرش الأسلاف المنعمين. وهي إنجازات من الكثافة والكثرة والتنوع والاستمرار والقوة، ما يجعلها جديرة بالدراسة والتقييم الموضوعي من قبل مختصين في شتى المعارف المتصلة بتحول المجتمعات وضبط آليات تطورها.

وأحبذ من جانبي، في هذه المناسبة السعيدة، أن أركز على مقومات أعتبرها أساسية، انبنت عليها السياسة الخارجية للمملكة المغربية، كونها المجال المخصص بامتياز لجلالة الملك بحكم الدستور، ولما بينها وبين السياسات المنتهجة في الداخل من ترابط عضوي.

ويكمن مبرر اختياري، في أنني حظيت بشرف العمل إلى جانب جلالة الملك مدة ما يقرب من ثماني سنوات، وزيرا للخارجية والتعاون، في ظل حكومتين متعاقبتين، منفذا ومطبقا، مع زملائي في الوزارة، بقدر معرفتنا وتجربتنا، التوجيهات الملكية في هذا المجال.

غير أن اقتصار حديثي عند الجانب الدبلوماسي، لا يمنعني، كمواطن قبل أي شيء، من التأكيد على مسلمة باتت بديهية بين المنصفين من المهتمين بالشأن المغربي، مفادها أن صورة بلادنا على مدى التراب الوطني برمته، تغيرت رأسا على عقب، ومس التغيير شتى مناحي الحياة الاجتماعية. وخلال العشرية الماضية أطلقت عشرات المشاريع التنموية، وبوشرت إصلاحات جذرية، همت الإطار المؤسساتي والقانوني لعدد من القطاعات الاستراتيجية، بإزالة العراقيل الإدارية وتحيين التشريعات المتقادمة لفسح الطريق أمام تطبيق حكامة جديدة قوامها الفعالية والشفافية والنجاعة، والسرعة في اتخاذ القرار الصائب وتنفيذه. تم كل ذلك في ظل أجواء سياسية متطورة ومتدرجة بهدوء، ولكن بعزيمة وثبات، نحو ترسيخ الممارسة الديمقراطية، وإضفاء العقلانية على المشهد السياسي والحزبي، الأمر الذي تجلى كذلك في استقرار البلاد واشتغال مؤسساتها الدستورية بشكل مرض.

لقد أعطى جلالة الملك المثال بنفسه من خلال السهر على حسن تنفيذ المشاريع الاقتصادية والاجتماعية الكبرى ومراقبة جودتها. تفقدها شخصيا على الأرض وساءل المشرفين الميدانيين عليها عن أدق التفاصيل المتصلة لتلافي النقائص والثغرات.

وفي هذا السياق، يمكن اعتبار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي أرادها جلالته وسيلة وسلاحا لمحاربة الفقر والإقصاء والعزلة، بمثابة مدرسة وطنية كبرى لتكوين الأطر المعبأة في ورش التنمية الكبير؛ انصهرت فيه الطاقات وتوحدت الإرادات الخيرة، حيث يعمل المتدخلون والفاعلون من القطاعين الخاص والعام جنبا إلى جنب، بروح متضامنة وبشراكة مع المجتمع المدني والهيئات المنتجة والنخب المحلية، ضمن إطار مشاريع متوسطة ووحدات إنتاجية صغيرة مدرة للدخل، تتوخى تحسين ظروف عيش الفئات المهمشة، موزعة بمقادير مضبوطة على الأجزاء المتضررة من تراب المملكة، في أفق ربطها بعجلة النمو.

وما يلفت نظر الملاحظ، عند ملامسة بعض المظاهر والتجليات الكبرى لسياسة بلادنا الخارجية، في غضون العشرية الأولى من عهد جلالة الملك محمد السادس هو أن تلك السياسة حافظت على المبادئ والمكتسبات التي راكمها المغرب منذ استقلاله، ومكنته من الاضطلاع بأدوار ناجحة على الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية. أدوار متناسبة مع ثقله التاريخي وموقعه الاستراتيجي وتطلعاته المشروعة ومسؤولياته وواجباته الأخلاقية في حفظ الاستقرار والأمن والسلم.

وإذا كان حيز هذا المقال لا يسمح بتعداد كل جهود بلادنا في هذا المضمار، فإني أعتقد أن النجاح في السياسة الخارجية، تأتى من جملة أسباب، يتصدرها، من وجهة نظري، نزوع متأصل نحو «الاعتدال» ما مكن بلادنا من موقعة نفسها في خضم وضع دولي، كان دائما، ولا يزال، سريع التقلب. عرفنا كيف نزن قوتنا الذاتية بميزان دقيق في الفترات الحرجة، فلم نبالغ في الاعتداد الذاتي بها، مثلما أننا لم نبخس من قيمة الأوراق التي نتملكها. هكذا انطبعت علاقاتنا مع الخارج بالانفتاح والاحترام المتبادل والمعاملة المتوازنة المتكافئة في ظل الثقة بالنفس.

أعطى جلالة الملك محمد السادس وجها جديدا للدبلوماسية المغربية، مكنها من استئناف الحضور في بعض المواقع التي ربما وقع إهمالها في الماضي لاعتبارات معينة، لكنه بذات الوقت وثق جلالته علاقاتنا أكثر ووطدها بالدوائر التقليدية التي نتقاسم معها كثيرا من المبادئ، وتعود المغرب على التعامل معها. هكذا انفتحت أمام بلادنا آفاق جديدة.

لقد غيرت الإصلاحات العميقة التي باشرها جلالة الملك في الداخل، نظرة العالم الخارجي إلى بلادنا، إذ تأكد، بما لا يدع مجالا للشك، أنه أمام ملك حداثي له مشروع ديمقراطي، ما يفرض مساندة التجربة التي يقودها الملك محمد السادس بدأب وإصرار على تحدي العراقيل والمثبطات. هكذا تخلى الخارج الذي يهمنا عن تحفظاته القديمة حيال النظام السياسي في المغرب وصار ينظر إلينا بمنظار مختلف.

وفي هذا السياق، ولهذا السبب، تمكنت بلادنا، وهي الأولى في حوض البحر الأبيض المتوسط، من إبرام اتفاق استراتيجي مع الاتحاد الأوروبي، منحت بموجبه صفة الوضع المتقدم، ما يعني إشراكها تدريجيا في سياسات الاتحاد، وتمكينها من الولوج للوكالات التابعة له، والاستفادة في المدى المتوسط من صناديقه المالية، أي ما عبر عنه بعبارة «للمغرب الحق في كل شيء باستثناء المؤسسات» أي عضوية البرلمان الأوروبي والمفوضية في بروكسل.

وإيمانا من المغرب بحياده، لم يكتف بعقد شراكة استراتيجية مع الجار الأوروبي، بل أبرم اتفاقا مماثلا مع روسيا الاتحادية، يشمل كافة المجالات النافعة للبلدين، كما حرص جلالة الملك على ترسيخ علاقات بلادنا بدول أخرى صديقة مثل الهند واليابان والصين الشعبية والبرازيل وغيرها من الدول الناهضة، كونها تمثل نموذجا في التنمية يمكن لبلادنا الاستفادة منه. وتتسم الدبلوماسية المغربية في عهد جلالة الملك بمميزات أخرى من قبيل التضامن وإعلاء القيم النبيلة في التعاون مع الخارج، والتعرف مباشرة عليه. ومن هذا المنطلق قام عاهلنا بزيارات غير مسبوقة من طرف أي رئيس دولة عربي ومسلم، إلى عدد من أقطار أمريكا الجنوبية من شمالها إلى جنوبها، ناهيك عن الدول العربية التي يعتبرها جلالة الملك والمغاربة امتدادا جغرافيا وتاريخيا وثقافيا ووجدانيا لفضائهم الوطني.

وفي سياق مماثل، ستظل الزيارات التي قادت جلالة الملك إلى عدد من الدول الأفريقية، تجربة إنسانية وسياسية فريدة بكل المقاييس، تختزلها في كثافة تلك الرحلة الملكية إلى دولة «النيجر»، حينما كانت البلاد تعاني من وطأة جفاف قاس لسنوات متتالية، حيث عم الجدب والقحط في عدد من الأقاليم، انتقل إليها جلالة الملك متضامنا ومؤازرا، معيدا البسمة والأمل للأهالي المتضررين، كما تعود أن يتصرف مع مواطني بلده كلما تعرضوا لشدة، ما يدل على نزوع إنساني لفعل الخير متجذر في شخص جلالته.

إن هذا الوجه الإنساني للسياسة الخارجية لبلادنا، يوازيه ويلازمه على نفس الدرجة من القوة والوضوح، حرص جلالة الملك على انتهاج ما أسميه «دبلوماسية الحزم».

والأمثلة كثيرة على ذلك. سأكتفي بذكر مثالين دالين: يتصل أولهما بالنزاع العربي ـ الإسرائيلي، إذ يضاعف العاهل الكريم الجهد تلو الآخر، وكلما تأتى له ذلك، في سبيل الدفاع عن عدالة القضية الفلسطينية ودعوة المجتمع الدولي للتجاوب مع تطلعات الشعب الفلسطيني الشقيق وحقه المشروع في استقلاله وإقامة دولته الوطنية.

وأتصور، وهذا يدخل بدوره ضمن دبلوماسية الحزم، أن جلالة الملك منفعل ومتأثر بما يحصل على الساحة الفلسطينية من فرقة الصف وصراع غير مبرر بين الفصائل، لكنه في ذات الوقت لا يكف عن بذل الجهود الموصولة، كرئيس للجنة القدس، من أجل الحفاظ على المدينة المقدسة وصيانتها من العبث الإسرائيلي بتراثها وآثارها الإسلامية. كما أن جلالة الملك سارع إلى نجدة سكان قطاع غزة المحاصر والمعتدى عليه، بصرف النظر عن مبررات الحرب. ذلك أن الطرف الضعيف في معادلة الصراع، لا يجوز أن يُحمل مسؤولية اندلاع العنف.

إن المظهر المعبر أكثر من غيره عن مبدأ الحزم الذي أتصور أنه يضبط سياسة بلادنا الخارجية بتوجيه من جلالة الملك، يتمثل في نموذج المقاربة التي اعتمدها الملك محمد السادس لطي ملف الصحراء المغربية. إذ بعد استنفاد المشاريع والمقترحات الأممية الخاصة بالتسوية، قرر جلالته بتشاور مع المكونات الوطنية والنخب الصحراوية، تمكين المناطق الجنوبية من حكم ذاتي موسع، أشركت في صياغته الفعاليات الحزبية والأكاديمية كما استُعين في بلورته برأي الخبراء القانونيين الدوليين، بالاستناد إلى تجارب الحكم الذاتي المطبقة بنجاح في عدد من مناطق العالم. فجاء المشروع المعروض على أنظار الأمم المتحدة، متكاملا مربكا لخصوم وحدتنا الترابية، إذ لم يستطيعوا الإتيان بمثله في واقعيته وإحكام بنوده ومراهنته على المستقبل البعيد، حينما ستنتفي الحدود التقليدية لا محالة.

وبدل أن يتجاوب دعاة الانفصال مع مقترح الحكم الذاتي ويتمسكوا بالعديد من الإيجابيات التي يتضمنها، تأسيسا على قاعدة «لا غالب ولا مغلوب»، نجدهم متشبثين بمفردات قاموس سياسي تجاوزه الزمن وتناثرت أوراقه مع انتهاء الحرب الباردة.

وأخيرا فإن هذه مجرد انطباعات سريعة، قصدت منها التعبير عن مشاعري الصادقة بمناسبة الحدث الوطني البارز الذي يعيشه وطننا بحلول الذكرى العاشرة لجلوس صاحب الجلالة على عرش أسلافه الكرام. فهنيئا للمغرب وملكه بهذه اللحظة المشرقة في تاريخه الحافل.

* وزير الخارجية والتعاون المغربي السابق