ما زلت كئيبا بمقدار (18%)

TT

عندما تولى (هتلر) الحكم في ألمانيا أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، غادر العالم العظيم (أنشتاين) ألمانيا إلى الأبد، وذهب إلى أمريكا يدرّس في جامعة (برينستون).

وقد وصلته رسالة من صديق له في (ميونخ)، يصف له حالة الاكتئاب التي يعانيها ويطلب نصيحته:

فبعث له (أنشتاين) يقول: عليك أن تقلل من سماع الأخبار بقدر ما تستطيع.

وحاول أن تجد بعض الأصدقاء الذين يفكرون مثلما تفكر.

واقرأ الروايات (الكلاسيكية)، واستمع إلى (السيمفونيات) الموسيقية.

واستمتع بروائع جمال الطبيعة من حولك.

واعقد أواصر الألفة مع بعض الحيوانات.

أما إذا استطعت أن تزيد فوق ذلك وأن تعشق امرأة تبادلك نفس العشق، فإنني أعدك عندئذ بأنك ستعود إنسانا بشوشا، ولن يستطيع أي شيء أن يعكر صفوك.

الواقع أنني عندما قرأت نصيحة (أنشتاين) تلك تأثرت بها جدا، وطبقتها فعلا، غير أن فقرة واحدة من تلك النصائح لم أستطع الحصول عليها.

لهذا ما زلت كئيبا بمقدار (18%) من حياتي تقريبا.

* * *

لا بأس من أن تتجاذب أطراف الحديث مع أقرانك وأنتم متحلقون حول مائدة الطعام، بل إن بعض الناس لا يحلو لهم الخوض في جميع الأمور من السياسية إلى الاقتصادية إلى الرياضية إلى العاطفية، بل وحتى إلى الأمور (الفضائحية) ـ والعياذ بالله ـ.

أقول: إن تلك الأحاديث لا تحلو لهم إلا على مائدة الطعام، وفي وجبة العشاء على وجه الخصوص، وقد لمست ذلك في المطاعم الأوروبية التي قد يمتد فيها وقت العشاء إلى عدة ساعات.

أرجع وأقول: إن ذلك قد يكون مقبولا، بل إنه في بعض الأحيان مستحب، ليسعد الإنسان وتنفتح شهيته للأكل أكثر، وإذا ساعده الحظ وكان من ضمن أقرانه بعض الحسناوات ممن فتح الله عليهن (بخفة الظل والعقل) معا، تكون شهيته، في مثل تلك الحالة، قد وصلت إلى قمتها.

والكلام على الأكل له (إتيكيت)، فليس من اللائق أن تتكلم بفم مفتوح وممتلئ، وهذا هو ما حصل مع أحد الأشخاص عندما كنت جالسا معه ومع شخص آخر في أحد المطاعم، وأثناء استرساله في الكلام وازدراده للطعام في نفس الوقت (غص) ونشبت لقمة في حلقه، وتبلم (وجحظت) عيناه، فقفزت من على الكرسي واقفا، وأخذت أضربه بقبضة يدي على ظهره بكل ما أعطاني الله من قوة، غير أنه لم يستجب بل إن لسانه تدلدل، وبدأت أجفانه تنطبق على بعضها، فظننت أنه يحتضر، فأخذت أصيح بزميلي الآخر أسأله عن (القبلة) من أجل أن أوجهه للكعبة الشريفة لكي (أشهده)، وقبل أن يجيبني انتفض الرجل فعرفت أن ما زال فيه رمق من حياة، لهذا تذكرت تعليمات الإسعاف، فما كان مني إلا أن أجعل سافله عاليه، وأسقطه أرضا ليرتطم رأسه برخام المطعم، وأرفع قدميه حتى تجاوزت أكتافي، في الوقت الذي أطلب من الآخر أن يواصل (دبجه) على ظهره، وبمساعدة (الغراسين) استطاع الرجل أن يخرج ما في حلقه، ويعود للحياة مرة أخرى، وعلى جبهته كدمة حمراء متورمة بحجم كرة (البينغ بونغ) من جراء ارتطام رأسه بالأرض.