كلا يا كليلة

TT

في السبعينات، اقترح عليّ الأستاذ غسان تويني، أن أعيد كتابة «كليلة ودمنة» بما وصفه «أسلوبك». برغم الإغراء الشديد، أو التكريم، في الاقتراح، وجدت الفكرة غير قابلة للبحث، إعادة كتابة «كليلة ودمنة» من أجل تبسيطها للأجيال الجديدة، سوف يخرجها من لغتها. وإذا أخرجت من لغتها أخرجت من إطارها. وإذا أخرجت من إطارها أخرجت من تاريخها. وإذا أخرجت من تاريخها أصبحت شيئا آخر، وكتابا آخر، ولو ظل العنوان واحدا.

كيف سوف يظل ممكننا، في عصرنا، أن نكرر القرد والغيلم أو الهر أو السنور، أو أن يظل الحمار على حمرنته وسذاجته، وهو الآن يدرب في السيرك على الابتسام بدل النهيق، يصفق له الأطفال والكبار، ويشارك في الصيف، كل صيف، في «سباق الحمير» في لبنان، بريئا ومطيعا وبلا تذمر؟

بداية القرن الماضي أمسك ميغيل دل أونامونو بتحفة الأدب الإسباني «دون كيخوته» وقلّب أوراقها وأعاد ترتيب فصولها ثم أعاد كتابتها كلها تحت عنوان «حياة دون كيخوته وسانشو». لكن في النهاية كان دون كيخوته الجديد بطل أونامونو. صحيح أنه كان جميلا ومثيرا ويحاول أيضا مصارعة طواحين الهواء، لكن لم يبقَ فيه شيء من بطل سرفانتس. وبعد نصف قرن وضع الساحر خورخي لويس بورخيس دون كيخوته جديدا تحت عنوان «بيار مينار، مؤلف دون كيخوته»، وفيه يحاول كاتب فرنسي مغمور أن يعيد قراءة وشرح ملحمة سرفانتس: التاريخ ليس أم الحقيقة، بل هو مصدرها. ليس فقط حافظ الأختام وشاهد الماضي ومستشار الحاضر وناصح المستقبل. فالحقيقة التاريخية عند المسيو مينار ليست ما حدث، بل ما نعتقد أنه حدث.

لا يهم كيف نعيد كتابة الآثار الكبرى وإنما كيف نقرؤها. ما زلت أقرأ في «الإلياذة» وما زلت أزداد تأكدا بأن هوميروس هو معلم الجميع، سواء كان فردا معروفا أو مجموعة مجهولين أعطوا اسما واحدا. لقد ذهب الشعراء إلى أبعد بكثير مما ذهب ذلك الإغريقي، وذهب الفلاسفة إلى أبعد بكثير مما ذهب أرسطو، وذهب المؤرخون إلى أبعد بكثير مما ذهب هيرودوتس، لكن ما أجمل وما أعظم الكتاب الأول. وهل عبثا أنه قاوم كل تلك العصور ولا يزال يتدفق مثل شلال عجيب لا نهاية لينابيعه؟

ما يمكن ربما، هو أن أضع لـ«كليلة ودمنة» مقدمة حديثة، بمعنى اللغة والتبسيط، فالذين قدموا للطبعات الماضية، ولعل أشهرها مقدمة الشيخ خليل زخريا، حاولوا منافسة ابن المقفع في مفرداته، وأرادوا تجاوز مفرداته وقواميسه، وخلطوا عصرهم بعصره، والهر بالسنور.