منهج نقد الذات.. في القرآن والسنة

TT

إنه تفاعل مبشّر. فبعد مقال الأسبوع الماضي (نقد الآخر ذاته: نقد للانبهار الساذج به)، وهو مقال ختم بفقرة قصيرة عن شواهد وسوابق من منهج نقد الذات في القرآن، وبعد الاطلاع على هذه الفقرة المختصرة، تمنى جمع من القراء الفضلاء: بسط القول في هذا الموضوع من حيث إنه غائب ـ منهجيا ـ عن أذهان الكثيرين ومعارفهم، وإن حياة المسلمين المعاصرة أحوج ما تكون إليه في جوانبها كافة.. وهذه أمنية وافقت عزم الكاتب على بسط الموضوع وإشباعه وتأصيله للأسباب الآنفة، ولسبب آخر جد جوهري ومهم وهو: إزالة وهم قد تمدد في أذهان أناس ـ من هنا وهناك ـ وهو أن نقد الذات (بضاعة غربية) بحتة خالصة، أي ليس للإسلام والمسلمين في ابتذارها وتأصيلها سبق ولا دور.. وهذا وهم ضخم تتوجب إزالته لئلا يأتي يوم يقال لنا فيه ـ مثلا ـ: إن الوضوء والتوحيد الخالص والإيمان بجميع الأنبياء والكتب التي نزلت عليهم (مستورد غربي)!!: ليس للإسلام فيه سبق ولا نصيب!!

ولقد تهيأ السياق الآن لبسط المعرفة في منهج نقد الذات في القرآن:

? ـ الحقيقة المعرفية الإيمانية المجلوة المستقرة في عصمة النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هي أنه (معصوم في البلاغ) عن الله جل ثناؤه: «وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى»، وأن النبي إذا اجتهد برأيه ـ قبل نزول الوحي ـ فالعصمة ألا يُقَر على خطأ (كما في تحريم العسل: «يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك»، وكما في قصة ابن أم مكتوم: «عبس وتولى. أن جاءه الأعمى. وما يدريك لعله يزكى. أو يذكر فتنفعه الذكرى...»..

وفي هذا التعريف الموضوعي المنير للعصمة: مفاهيم معرفية منهجية متعاضدة:

أ ـ البرهنة على أن القرآن من عند الله، لا من عند محمد، فالاستدراك على النبي جاء من خارج الذات، لا من داخل الذات.

ب ـ التوكيد على (بشرية) النبي بحسبان هذه البشرية حقيقة واقعية لا مراء فيها من جهة، وتفاديا للوقوع في تأليه النبي من جهة أخرى.

ج ـ التوكيد على أن من دون النبي من الناس (وكل الناس دونه) لا يحق لأحد منهم أن يدعي ما ليس للنبي نفسه. فإذا كان هذا هو حال الاستدراك القرآني على النبي المعصوم، فليس لأحد ـ كائنا من كان ـ أن يدعي لنفسه ما ليس للنبي من العصمة والارتفاع فوق مستوى الاستدراك.

د ـ ترسيخ قاعدة الاستدراك والتصويب ـ كل بحسبه ـ فالله وحده عز وجل هو الذي يستدرك على رسوله ويصوبه. أما غير النبي من الناس ـ الصحابة فما دونهم ـ فالمنهج هو أن يستدرك بعضهم على بعض: بشرطَي: العلم والنصح.

? ـ في القرآن نقد وتصويب لسلوك المسلمين الأوائل.. ومن ذلك:

أ ـ «يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم».. فمن مضامين هذه الآية: أن يوجه المسلمون النقد والتصويب إلى أنفسهم قبل كل شيء.. وهذا (منهج عملي)، بمعنى أنه إذا صح البناء الذاتي، فإن أمر التحديات الخارجية يهون أو يتراجع كثيرا.

ب ـ «ولا أقسم بالنفس اللوامة»، أي النفس التي تنتقد ذاتها وتلومها دوما.. نقل ابن كثير عن الحسن البصري قوله ـ في تفسير هذه الآية ـ: «إن المؤمن والله لا نراه إلا يلوم نفسه، ما أردت بكلمتي؟.. ما أردت بأكلتي؟.. ما أردت بحديث نفسي؟.. وإن الفاجر يمضي قدما قدما ما يعاتب نفسه».

ج ـ «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما. واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا. ها أنتم هؤلاء جادلتم الله عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا».

هذه الآيات نزلت في جماعة من المسلمين: سرق أحدهم درعا فخشي ربعه من الفضيحة فألصقوا التهمة بيهودي، فجاء الوحي الأعلى ببراءة اليهودي، وبانتقاد التواطؤ على تبرئة المتهم واتهام البريء!

د ـ في القرآن منهج كامل في (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) والأمر والنهي يتضمنان ـ بالضرورة ـ نقدا وتصويبا، إذ إن الموضوع يتعلق ـ هاهنا ـ بوجود (خطأ ما) ينبغي نقده وتقويمه وتصويبه.. ويمكن القول: إن الخطأ هو (المنكر)، وإن (الأمر بالمعروف) هو التصويب البديل، أو النقد الإيجابي.

ه ـ إن نقد (الآخر) يتوجه إلى المسلم نفسه إذا تلبس المسلم بخطايا الآخر.. وهذان مثلان ساطعان:

أولا: «ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به»، فالمسألة منهج يتبع، لا أمنية تتمنى، ولو اكتفى المسلمون بالأماني لحاق بهم ما حاق بأهل الكتاب من جرائر الاكتفاء بالأماني في العلاقة بالله، والتأهب للقائه سبحانه.

ثانيا: «تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون».. فهذه الآية نزلت في اليهود، لكنها تنطبق على المسلمين ـ ولا بد ـ إذا تفرقت قلوبهم، وضمر أو غاب عقلهم كما هو حال المسلمين اليوم.. فنقد (الآخر) ينصب على المسلمين إذا هم فعلوا فعله، وسلكوا سلوكه.

و ـ في أُحُد، حاقت بالمسلمين الهزيمة ـ أو المصيبة بتعبير القرآن ـ بعد جولة النصر الأولى، فارتاع المسلمون وتعجبوا أيما عجب، فجاء الوحي يرد ما جرى إلى (المسلمين) أو بعض المسلمين الذين خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم: «أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم».. هذا نقد صارم صريح مباشر موجه إلى (الذات المسلمة) وليس إلى خالد بن الوليد ـ مثلا ـ الذي كان يقود كتائب الشرك يومئذ!.. ومن تمام المعنى النقدي ـ هاهنا ـ إثبات حقيقة: أن الوحي لم (يتستر) على ما جرى بحجة الخوف من شيوع روح الهزيمة في الميدان العسكري، والحياة المدنية، ولا بحجة أن الأعداء سيستغلون ذلك ويوظفونه لصالحهم.. لا.. لا لم يكن هناك شيء من التحفظ والكتمان، بل أعلنت الحقائق كما هي: «إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون».

هذا هو منهج القرآن في نقد الذات، وهو منهج اتبعه النبي ـ بلا ريب ـ وبيّنه وفصّله تفصيلا.. ومن وجوه هذا البيان والتفصيل:

أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أعلى الناس صوتا في نقد المفاهيم والسلوكات الخاطئة:

أولا: كان أعلى الناس صوتا ضد التشدد والغلو والتنطع:

أ ـ قال: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين».

ب ـ وقال: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم».

ج ـ وقال: «هلك المتنطعون.. هلك المتنطعون.. هلك المتنطعون» والمتنطعون هم المتشددون الخارجون عن منهج اليسر: جهلا، أو هوى من عند أنفسهم.

ثانيا: كان النبي أعلى الناس صوتا ضد (العنف):

أ ـ قال: «من أعطي حظه من الرفق، فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق، حرم حظه من الخير».

ب ـ وقال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه».

ج ـ وقال: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف».

د ـ وقال: «من سل علينا السيف فليس منا».

ثالثا: لم يخدع النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد (المظاهر الدينية)، ولا بـ(الكميات الهائلة للتدين) بل حاكم كل مظهر وكل سلوك ذا صورة دينية إلى المنهج الديني الحق وأعمل (معيار النقد) لكل سلوك ديني في عصره.

كان هناك من يتدين على نهج منحرف، والنبي بين ظهرانيهم وهم (الخوارج) الذين ظهرت جرثومتهم الأولى على يد (ذي الخويصرة).. كان هؤلاء (متدينين) في كم العبادة وصورها بشهادة النبي لهم، حيث قال: «يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية».

عجيب!! تالون للقرآن صوّامون قوّامون يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية!

لماذا؟

لأن (كم) العبادة الضخم ولا صورتها البادية تغني عن صحة المنهج.

ولذا وجه النبي سهام النقد الصارم إلى هذا النوع من العبادات الخادعة: انتصارا للمنهج، ونقدا لكل سلوك زائغ: ولو ارتدى زي الدين، وتسربل بمظاهره!