مفاوضة الطالبان هزيمة للديموقراطية

TT

طلع البعض علينا مؤخرا باقتراح التفاوض مع الطالبان في أفغانستان، أو حث الرئيس الأفغاني حميد قرضائي على اكتشاف «عناصر معتدلة» بينهم لإشراكهم في حكومة ائتلافية.

في بريطانيا انتظم معلقو اليسار في لواء كاسندرا (صاحبة نبوءات التشاؤم في الميثولوجيا الإغريقية)، ينعقون باستحالة الانتصار على الطالبان، وبالتالي إدخال معتدليهم حكومة ائتلافية بزعامة قرضائي للإسراع بسحب القوات البريطانية التي ساعد ارتفاع عدد ضحاياها الشهر الماضي، لواء كاسندرا في مهمته وهي سحب الرأي العام نحو التشاؤم، رغم أن أغلبية البريطانيين لا تزال تدعم مهمة الجيش في أفغانستان.

وأجد نفسي ضمن أقلية ضئيلة نحذر من خطر مقولات لواء كاسندرا على الأمن القومي البريطاني، وعلى أفغانستان وعلى بقية البلدان الإسلامية التي عانت من إرهاب القاعدة (توأم الطالبان) قبل 11 سبتمبر.

كمهمة عسكرية نجحت عملية «مخلب الفهد» في هلماند. فالإجهاز التام على الطالبان (كما يدعي اليسار البريطاني) ليس ضمن الأهداف الاستراتيجية للقوات الدولية في أفغانستان؛ فمهمتها بناء الدولة وتدريب الجيش الأفغاني لحماية نظام ديموقراطي.

كما أن «مخلب الفهد» أجبرت الطالبان على التقهقر فحررت هلماند (منطقة في مساحة الدلتا المصرية)، وأهلها من إرهاب الطالبان ومنعهم الفتيات من التعليم بالجلد أو بذبح المعلمات والمعلمين.

زرع الطالبان ألغاما على الطرق أسفرت عن ضحايا بين الجنود البريطانيين والأفغانيين، لا يعني أنهم قادرون على الهجمات فأغلبهم الآن وراء الحدود في باكستان.

وحسب القول الانجليزي وجد الجنود البريطانيون أنفسهم «أسودا تقودها الحمير» لأن هناك قصورا استراتيجيا في ناحيتين؛ تكتيكية عسكرية وأخرى سياسية.

الأولى رفض بلدان الناتو الأوروبية تقديم ما يكفي من الجنود والعتاد لمساعدة القوات البريطانية مما أدى لتحجيم عملية مخلب الفهد والتي كان يجب أن تستمر على طوال الحدود بكثافة ولفترة تكفي لإيقاع عصابات الطالبان بين فكي كماشة البريطانيين والجيش الباكستاني.

القيادات السياسية في معظم بلدان الناتو أضعف من مواجهة ضغوط الإعلام اليساري بشجاعة لإرسال قوات تكفي لمحاصرة الطالبان وإبقائهم في موقع الدفاع لمعالجة خطا الرئيس جورج بوش بعدم تدمير الطالبان في 2001 عقب عدوان القاعدة على أميركا في 11 سبتمبر، خاصة أن الرأي العام الأميركي وقتها كان سيدعم إرسال 150 – 200 ألف جندي. فقد أضاع، هو ورئيس الوزراء توني بلير فرصة تاريخية بعدم عقد اتفاق رباعي مع الرئيس الباكستاني، الجنرال برويز مشرف، والهند، وتقديم دعم سخي يمكن مشرف من نقل ثلاث فرق عسكرية باكستانية من الحدود مع الهند إلى الحدود مع أفغانستان لمحاصرة الطالبان وإرهابيي القاعدة المتقهقرين أمام القوات الشمالية وقوات التحالف الأنغلوأميركي. وكانت فرصة لا تعوض للإجهاز على الشر التاريخي المتمثل في الطالبان ـ القاعدة، وربما القبض على أسامة بن لادن والملا محمد عمر وإغلاق مراكز تدريب الإرهابيين.

حالة القيادة السياسة البريطانية اليوم تدعو للرثاء. فحكومة غوردون براون ترى الانتصار على شارع الصحافة أهم من الانتصار على الطالبان، وإقناعنا كصحافيين بنشر عناوين «طيبة» أهم عند براون من إقناعه الألمان والفرنسيين بإرسال القوات اللازمة لدحر الطالبان وتدريب 170 ألف جندي أفغاني (الحد الأدنى المطلوب) و80 ألف شرطي لدعم بناء الدولة الأفغانية. وتخبط حكومة براون وعدم وضوح إستراتيجيتها، أدى إلى استخفاف الأوروبيين بها وعدم تلبية النداءات المتكررة بالمساهمة في الحرب بشكل فاعل.

أما أميركا ـ السند الأساسي للحرية في العالم والذراع الأقوى في الحرب على الإرهاب ـ فقيادتها السياسية ليست بحال أفضل من مثيلتها البريطانية.

وربما يكون للرئيس باراك أوباما شعبية كبيرة في أوروبا والبلدان العربية والإسلامية، لكن هذه الشعبية أصبحت كعب أخيل من الناحيتين الاستراتيجية والعسكرية في الحرب العالمية على الإرهاب التي لم تتعد مساهمته فيها ـ حتى الآن ـ مستوى قوة البلاغة الخطابية التي يصفق لها اليسار الأوروبي والمعلقون العرب دون فحصها منطقيا من ناحية التطبيق العملي.

فوعده بإغلاق معتقل غوانتاناموا لم يتم وغير قابل للتنفيذ في المستقبل المنظور لأنه لم ولن يجد بلدانا تريد استقبال أو إيواء نزلائه، كما أن عددا معتبرا ممن أفرج عنهم يحاربوننا الآن في صفوف الطالبان أو مع إرهابيي القاعدة وقراصنة الصومال.

إغراق أوباما للشرق الأوسط بالمبعوثين والمفاوضين الأميركيين لا يزال فترينة يعرض فيها مسرح «من يفعل شيئا» فيصفق له العرب (الذين أعماهم الهوس بالقضية الفلسطينية عن رؤية أخطار أكثر تهديدا للإنسانية ولهم وللعالم). فأوباما غير قادر على إجبار الإسرائيليين على وقف بناء المستوطنات أو العودة للمفاوضات بشروط يقبلها الفلسطينيون وبشكل مشرف للرئيس محمود عباس يمكنه من مواجهة التحدي من حماس (ووراءها سوريا وإيران وربما القاعدة) والقصف المتواصل من الفضائيات الجهادية الغوغائية.

فواقعيا لن تعود عملية السلام لمسار مثمر قبل انتخابات جديدة في إسرائيل تطيح بائتلاف بنيامين نتانياهو وتأتي بحكومة جديدة؛ ولأن حماس والقوى المناهضة للسلام تدرك ذلك فمن الأرجح أن تعيد نتانياهو للحكم بزيادة شعبيته بعمليات إرهابية عشية الانتخابات.

شعبية أوباما تجذبه نحو إرضاء رأي عام في العالمين العربي والإسلامي (تشكله برامج الصياح الغوغائي في الفضائيات)، فيحجم عن إرسال حملة عسكرية (لا تقل عن حجم حملة الإطاحة بصدام 2003) يمكنها تدمير قوى الطالبان وتصفية أكبر عدد منهم في أفغانستان وباكستان بالتعاون مع الجيش الباكستاني.

وللأسف فإن قوة أوباما وبراون وبقية زعامات الناتو مجتمعة لا تعادل نصف حكمة ودهاء وقوة السير ونستون تشرشل، الذي لا يوجد في العالم اليوم رجل دولة بمستوى تصميمه ويستطيع حمل الرأي العام معه، وإقناع الحلفاء بكسب الحرب العالمية على الإرهاب. ولذا تبزغ فكرة التفاوض مع الطالبان من شروخ ضعف القيادة السياسية للعالم الحر.

المفاوضات تعني تنازل حكومة كابول عن أهم أسس الديموقراطية وحقوق الإنسان وإذلال النساء، أي نصف عدد السكان. مشهد جلد الطالبان بوحشية لفتاة باكستانية حول الرأي العام الباكستاني لدعم حملة الجيش لإخراج الطالبان من سوت، بعد حماقة إسلام آباد بالهدنة مع الطالبان والسماح لهم بتطبيق الشريعة (بتفسير القرون الوسطى المظلمة).

في الشهر الماضي عقب استماع لجنة العلاقات الخارجية في مجلس العموم لشهادة اللورد مالوك براون (الوزير المسؤول عن المنطقة)، توسلت سيدة أفغانية بدموعها للجنة بعدم السماح للطالبان بالمشاركة في الحكم حفاظا على أرواح آلاف من الأفغانيات سيتعرضن للجلد أو الذبح لذهابهن للمدارس لتلقي العلم بتواجد الطالبان بينهم.

وقد لا يكون الرئيس قرضائي هو الزعيم الأمثل لأفغانستان، لكنه ولا شك أكثر قبولا لدى غالبية الأفغان من الطالبان، وبالنسبة للعالم الحر، حل أفضل كثيرا من عودة أفغانستان لحكم الملا عمر ومجرمي القاعدة.