الهوس الأمني.. بعد 11 سبتمبر

TT

لقد كانت صورة مشوشة للغاية: حيث كان أربعة من الرجال الأقوياء، يضعون سماعات الأذن ويرتدون البذل الثقيلة التي تميزهم كرجال أمن يقفون أمام محل الحلاقة الأسبوع الماضي، وفي الداخل كان روبرت مويلر مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الذي هذب شعره بعناية يجلس على مقعد الحلاق.

ربما أصبح مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي في واشنطن هذه الأيام يحتاج إلى أفراد الأمن لكي يحمونه أثناء قص شعره. ولكنني أتعجب!

فمن وجهة نظري فإن ما لفت الانتباه إليه كان ذلك الحضور المكثف لحراسه؛ ففي محل البقالة على الجانب الآخر من الشارع، كان الرجل هو حديث المصطفين لكي يدفعوا حساب مشتراواتهم. «من الذي يجلس عند الحلاق؟ إنه رجل مكتب التحقيقات الفيدرالي»، «ما اسمه؟» «مستحيل» فالناس يأتون فقط لكي يشاهدوا ما يحدث.

مما لا شك فيه أن حماية الشخصيات العامة أمر ضروري، ولكن الحس الأمني في الولايات المتحدة قد ازداد إلى حد كبير حتى أن المسؤولين الكبار أصبحوا يسافرون في سيارات مدرعة، وكأنهم يخضعون للتهديد الدائم. ويبدو أن كل الوزراء لديهم أفراد أمنهم الخاص؛ كذلك الحكام والعمد والمشرعين البارزين.

ولكن ممن يحمي رجال الأمن هؤلاء المسؤولين؟ القاعدة؟ حزب الله؟ المجانين؟ الناخبين الغاضبين؟ أو أنه شيء أكثر زوالا ـ وبدون هوية، إحساس مبهم بالخطر ربما يشعر به فجأة وزير الطاقة أو حاكم نيوجيرسي؟

ما رأيته في محل الحلاق كان مثالا صغيرا على الهوس العام بالأمن الذي ساد البلد في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. لدي اقتراح إذن: في الذكرى الثامنة للهجمات في سبتمبر (أيلول) القادم، دعونا نقرر أن نلف قرص التحكم في حالة جنون الارتياب تلك إلى الوراء قليلا. فقد ساهم الإفراط الأمني في زيادة حالة الخوف التي يشعر بها الناس (وإزعاجهم) كما ساهم في الأمن العام. فقد أصبحت إدارة أمن النقل شديدة الانتشار في المطارات حتى أننا لم نعد نلاحظ غرابة خضوع السيدات العجائز والأمهات الحوامل والأطفال في عمر 8 سنوات وأفراد الأمن للتفتيش والتدقيق كما لو أنهم قد عادوا للتو من وزيرستان. فهل يبدو ذلك منطقيا؟

للثقافة الأمنية زخمها الخاص الذي يزيح في طريقه القيم الأخرى مثل الانفتاح والخصوصية؛ فلا تستطيع هذه الأيام أن تدخل أحد المباني المحترمة في واشنطن سواء كان خاصا أو عاما بدون أن تظهر بطاقة هويتك وتوقع في دفتر الزوار. وعندما ذهبت لكي ألقي كلمة في جامعة الدفاع القومي الأسبوع الماضي كان الأمر مماثلا لدخول المنطقة الخضراء في بغداد؛ فقد جعلوني أفتح شاحنتي، وأرفع غطاء السيارة، وأفتح أبوابها الأربعة، وكانوا قبل ذلك قد فحصوا ظهر لوحة أرقام السيارة بالفعل. يقوم جهاز الخدمة السرية بأصعب مهماته الأمنية في واشنطن وأكثرها وضوحا؛ فيمكنك سماع صخب صفارات إنذار السيارات كل مساء أثناء مرور موكب السيارات المؤلف من حوالي 12 سيارة وست دراجات بخارية التي تقود موكب الرئيس إلى محل إقامته في شارع ماساشوستس.

ربما يكون من الضروري أن يتألف الموكب من العديد من السيارات، ولكن المشهد بصراحة يذكرني بموسكو خلال حكم السوفيات.

وعلى جهاز الخدمة السرية أن يتعامل مع بلاغات حول ما يقارب 3000 تهديد ضد الرئيس سنويا؛ فبخلاف «القاعدة»، يوجد العديد من المجانين الذين ربما يرغبون في إيذاء الرئيس وعائلته.

ويمكننا أن نستنتج من ذلك أن ضباط جهاز الخدمات السرية هم من الأكثر وقاحة في واشنطن؛ فقد قال رئيس موظفي البيت الأبيض قبل عدة سنوات إنه اكتشف أنهم غير ودودين عندما أوقفه أحد الضباط الذي لم يتعرف عليه لأنه لم يكن يحمل شارته. كما يبدو أن عددا من أفراد جهاز الخدمة السرية يعتقد أن تسريب بعض التفاصيل الشخصية المحرجة المتعلقة بالرئيس وأسرته هي جزء من مهمته. (اقرأ كتاب رون كسلر الجديد الممتلئ بالنميمة «في جهاز الرئيس للخدمة السرية» حول التسريبات المتعلقة بأسرتي بوش وأوباما). وعندما يتعلق الأمر بالأمن، فإن عقد صفقات ليس بالأمر السهل، ولكن عقلية الحصون تلك قد أوصلتنا بالتأكيد لنقطة اللاعودة. والحقيقة هي أننا يجب أن نتعايش جميعا مع احتمالية وقوعنا في يد الأعداء؛ فذلك جزء من الحياة الحديثة. نعم. نحن بحاجة إلى أخذ الاحتياطات المعقولة. ولكنه سيكون مفيدا لمسؤولينا أن يخرجوا أحيانا من الفقاعة ويستنشقون عبير الزهور ـ بدون أن يمر على مرشحات جهاز الأمن.

وفي المرة القادمة، سوف أدفع لك ثمن الحلاقة يا سيد مويلر، وإذا لم يكن لدى حرسك اعتراض فسوف اصطحبك في جولة بالحي.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»