مثبطات الديمقراطية

TT

هناك مفارقة تبدو غريبة ويحار المرء أمامها، وهي أن الديمقراطية مثلت عند كل الشعوب الطريق للحكم الأمثل، وأنجزت لهم الحكم الرشيد، إلا عندنا فموطن الغرابة هو ما باتت تقدمه منطقتنا من نقيض لذلك، فقد أثقلت بأحمال تشدها للخلف، وإذا كانت غاية اختيار نظام حكم دون آخر ومعيارية نجاحه تقاس بمقدرته على إنجاز وضع أفضل لإنسانه، فإن الديمقراطية تدخل منطقتنا بانسدادات دورية، وتوفر مسرحا لصراعات الطبقة السياسية، ولأوهام تماهي المصلحة العامة وتختزلها لتحقيق مصالح الأحزاب وأعضائها ونرجسية قادتها.. والأمر أنها باتت آلية إعاقة وليس تطورا، في بلد أقل ما يحتاجه ويستحقه ألا يتقدم زحفا، بل أن ينطلق قفزا، والمشكلة تتفاقم عندنا كون أن الدولة والحكومة هي التي تدير مفاصل البلد كلها تقريبا، وهامش القطاع الخاص ضعيف، وبالتالي إذا أعيقت فإنها تصيب المجتمع كله بالركود والشلل، بخلاف الديمقراطيات التي اقترنت باقتصاد السوق واتساع حيز المبادرة الفردية وهيمنة القطاع الخاص وضيق تدخل الدولة، وبالتالي حتى عند الأزمات الحكومية المتكررة التي مرت بها بعض الديمقراطيات الغربية فإن وتيرة سير المجتمع والاقتصاد قلما تتأثر.

فمفهوم الديمقراطية الذي يعني أن تحكم الأغلبية البرلمانية باعتبارها حاملة تفويض الشعب، والذي يعني ببساطة أن يحكم الذي يربح الانتخابات وأن تشكل الأقلية معارضة تراقب وتحاسب، يتم الالتفاف عليه وإفراغه من مضمونه بديمقراطيات منطقتنا، وأوضحها العراقية واللبنانية، فيحكم بدلا من ذلك الكل، الرابح والخاسر، مع مرافقة ذلك لإيجاد حزمة من الضمانات، تمنع الفائز حتى من حرية القرار، فيتم ذلك تحت بنود ومسميات، الحق الضامن أو المعطل، أو تحت مفهوم الشراكة الحقيقية أو حكومة الوحدة الوطنية، والتي تعني بفهم آخر أنه لا جدوى ولا قيمة لنتائج الانتخابات، ناهيك عن أي حكومة وحدة وطنية والتي فضلا عن مناكفة بعض أطرافها للبعض الآخر فإنها لا تتفق حتى على الحد الأدنى من المشتركات الوطنية.

النسبية، هذا المفهوم الذي طالب الجنرال عون بأن تشكل الحكومة اللبنانية على أساسه، في حين أن النسبية هي نظام انتخابي بات يفضل في المجتمعات المتعددة غير المتجانسة، إذ إنه يحرز التمثيل الأفضل للمكونات العرقية أو الدينية، فهو يعطي تكافؤا دقيقا للأصوات التي حصل عليها الحزب مع تمثيله في البرلمان، لذا اعتبر أن النظام الانتخابي النسبي هو الملائم للمجتمعات المنقسمة، إذ هو ينتج نظاما متعدد الأحزاب تتمثل فيه بوضوح جميع شرائح المجتمع، من جهة أخرى فإن التمثيل النسبي يترافق مع التشظي الحزبي، لذا فإنه غالبا ما ينتج ديمقراطيات هشة، لذا فنقل النسبية من مفهوم انتخابي وتمثيلي إلى الحكومة هو نقل وتكريس للهشاشة. لكن مع أن النسبية وبكل ما تختزنه من سلبيات نقلت كقاعدة تؤسس عليها الحكومات العراقية واللبنانية، إلا أنه تم إسقاط وإغفال ربما الميزة الوحيدة التي توفرها هذه القاعدة وهي الاستقرار، كون الحكومة ترتكز على أوسع قاعدة برلمانية، وبالتالي هذا ما ييسر عملها ويسهل تمرير طلباتها ومشاريعها في البرلمان، ولكن الغريب أن العكس هو الذي يجري، فعلى الرغم من أن الحكومة العراقية الحالية تتمثل فيها أغلب الكتل البرلمانية بوزراء وفقا لقاعدة «النسبية»، أي بقدر تمثيلها في البرلمان والذي يعني أنها ترتكز على أغلبية أكثر من 200 من مجموع 275 عضوا، فإنها تعجز منذ زمن عن تمرير أي قرارات أو مشاريع بما فيها التي تحتاج الأغلبية البسيطة، بل وأحيانا لا تحصل لمشاريعها على أكثر من 45 صوتا تلك الآتية من حكومة وحدة وطنية صوت عليها من قبل كل وزراء الكتل. والقاعدة الثانية التي أطيح بها هي أن الأنظمة البرلمانية عادة ما تعرف بأن فصل السلطات فيها ضعيف لكون الأغلبية البرلمانية هي التي تشكل الحكومة، وبالتالي من غير الراجح أن تقف ضد حكومتها أو أن تحجب الثقة عنها، لذا عادة ما توصف الأنظمة البرلمانية بتطابق أو تداخل السلطتين التشريعية والتنفيذية. والقاعدة الثالثة التي أطيح بها أيضا بالممارسة البرلمانية العراقية هي التحلل الحزبي، في حين أن الديمقراطيات البرلمانية تتصف بالضبط الحزبي الصارم وبغلبة العمل الكتلي.

ربما يُرد بأن الأهم هو تقديم المصلحة العامة وإن تنافى ذلك مع قواعد درج عليها، سأرد بأخذ فقط مقطع للدلالة من الجلسة الأخيرة للبرلمان العراقي قبل انفضاضه لعطلته الصيفية، فقد أسقط البرلمان الذي أغلب كتله ممثلة في الحكومة ثلاثة مشاريع قوانين لهذه الحكومة! الأول هو جلب استثمارات بقيمة سبعين مليار دولار تخصص منها 61% للإسكان والزراعة في بلد يحتاج إلى ما لا يقل عن مليون ونصف المليون وحدة سكنية وفق آخر التقارير الدولية، وللاستثمار في الزراعة في بلد كان قد عرف بالسواد لكثرة زراعته التي باتت الآن شبه مندثرة، ولإصلاح المدارس، ولتوفير الماء الصافي، ولبناء مستشفيات، والقانون الآخر الذي اسقط هو تعديل الموازنة بما يتيح للحكومة الحق في الاستدانة الداخلية قصيرة الأجل لتوفير أموال لبناء الكهرباء وغيرها، دوافع من أسقطوهما هي ما بين ألا تمنح الحكومة منجزا يفيدها أو ربما يعزز من حظوظها في الانتخابات العامة القادمة، أو بغية تقييدها لحين معرفة شكل التحالفات التي ستخوض الانتخابات. أما الثالث الذي أسقط بإخلال النصاب فهو الاتفاقية مع البريطانيين، هذه الاتفاقية التي أدى عدم إقرارها إلى سحب البريطانيين لقواتهم منذ يومين، والذين كانوا يقومون مع البحرية الأسترالية، التي انسحبت قبل ذلك لفشل إقرار اتفاقية معهم أيضا، ومع الأميركية لحماية منصات تصدير النفط والذي يمثل 80% من صادرات العراق النفطية ومن دخله وحماية مياهه الإقليمية، وتدريب البحرية العراقية لكي تقوم بهذه المهام بعد سنة بافتراض استمرار التدريب وتوافر القطع والمعدات البحرية، فقد قُطع كل ذلك واُنهي، ضاربين بمناشدات عرض الحائط وزير الدفاع بأنه لا يمتلك قطعا بحرية لذلك وحاجته للتدريب ومخاوفه من تحول الخليج إلى ما يشبه القرصنة الجارية قرب الشواطئ الصومالية. الطريف أن إحدى الكتل البرلمانية انسحبت من الجلسة وأسقطت النصاب، وحالت دون إقرار الاتفاقية تضامنا مع الكتلة التي عرفت بمواقف ثابتة ضد أي وجود أجنبي في العراق، تعويلا على أن تقف معها بالمقابل في قضية كركوك! بعد هذا أليست الديمقراطية عندنا مثبطة؟