نصب اليانصيب

TT

ساحة الطرف الأغر هي قلب العاصمة البريطانية وملتقى جل مظاهراتها واجتماعاتها السياسية. يتوسطها عمود نلسن الذي يبلغ ارتفاعه 185 قدما. يعتليه تمثال الأميرال نلسن بطل معركة الطرف الأغر. ينظر محدقا بعينيه نحو الجنوب حيث خاض تلك المعركة قرب شواطئ الأندلس. صنعه النحات بيلي. لو كان من صنع صديقي النحات العراقي محمد غني لجعله ينظر غربا. فإلى غربه يقع مبنى وزارة البحرية. نحن نتوقع من أي ضابط ألا يتطلع لأي شيء غير المنصب الوزاري. ولكنه كان نحاتا إنجليزيا فجعله يتطلع للقتال. ولكنني لو كنت أنا النحات لجعلته ينظر نحو الشرق. فهناك قصر عشيقته الليدي هملتن التي هجرت زوجها لتعيش معه.

حول هذا العمود صمم المعمار ريلتن ست منصات اعتلى خمسا منها بناة الإمبراطورية البريطانية، الملك جورج الرابع على صهوة جواده، ثم السير هنري هفلوك والجنرال شارلس نابير والأميرال جليكو والأميرال بيتي. بقيت منصة واحدة لم يتفق الإنجليز على من يستحق وضع تمثاله عليها. فالعراقيون ليسوا وحيدين في الشقاق والنفاق. للإنجليز أيضا حصتهم من ذلك. لم يتفقوا على أحد. ربما أرادها كل منهم لنفسه. وهو دائما شأن أهل الشقاق والنفاق. قيل مؤخرا إنهم يريدون حجزها للملكة إليزابث الحالية بعد موتها. ولكن أم شارلس ما زالت تصر على البقاء أسوة بأمها التي تجاوزت المائة.

أسقط بيد كين لفنغستون، عمدة لندن السابق، فلم يعرف ماذا يعمل بهذه المنصة حتى مماتها. بيد أنه كشيوعي سابق أيضا قرر تحدي كل هؤلاء الجنرالية والأميرالية الذين غصت بتماثيلهم الساحة فقرر إعطاءها للشعب. كيف يمكن أن يتم ذلك؟ أعطى كل مواطن بريطاني حق الصعود فوق المنصة الرخامية المهيبة لمدة ساعة، يفعل ما يشاء ويأخذ أي وضعية تعجبه ويحمل أي رموز أو أعلام أو يافطات يختار. لا يسألونه عن جواز سفره أو شهادة جنسيته أو دفتر نفوسه أو وثيقة خدمته العسكرية أو إيصال ضريبة الدخل كما يفعلون عندنا.

بالطبع أدى الأمر إلى زحمة. الجميع يريدون أن يصعدوا على المنصة ويتمثلوا بالزعماء. فقرروا أن تجري قرعة يومية. من يفوز بها يصعد المنصة ويتخذ وضع البطل لمدة ساعة. لم يستثنوا المرأة من حق القرعة، حتى ولو كانت محجبة أو منقبة وقضت حياتها تعيش بالقرعة. ولتتخلص من إزعاجاتي في البيت، قالت لي أم نائل، لماذا لا تذهب وتأخذ نصيبك من المنصة؟ إنها فرصتك الوحيدة لتكون بطلا يتفرج عليك الناس ولو لساعة فقط. قلت لا أمل في ذلك. فأنا بيني وبين الحظ والنصيب ثارات قديمة. هذه منصة لم تعط للمواطن ولا لأي شخص. منصة بالقرعة منصة للقسمة والحظ. إنها تحمل وتمثل نصبا لليانصيب. وهذه هي الحياة: قسمة ونصيب. فازوا بمعركة الطرف الأغر بالقسمة والنصيب، وانتصروا على هتلر بالقسمة والنصيب، وربحوا الحرب الباردة بالقسمة والنصيب.. وشيء من غباء القادة السوفييت والجمود الماركسي. فليكتبوا على المنصة: «نصب اليانصيب ولكل نصاب نصيب».

www.kishtainiat.blogspot.com