الطبع يغلب التطبيع!

TT

في زيارته الأخيرة للشرق الأوسط، دعا مبعوث السلام السيناتور جورج ميتشل إلى نوع من التطبيع مع إسرائيل كمؤشر صدق نية من قبل الدول العربية تجاه إسرائيل، كما كانت تلك إشارات الرئيس الأميركي باراك أوباما في رسائله للقادة العرب تلميحا لا تصريحا. ولكن ما لا يعرفه السيناتور ميتشل ومعه الرئيس أوباما، اللذان لا أشك في رغبتهما الحقيقية في التوصل إلى حل للصراع العربي الإسرائيلي، ما لا يعرفه الرجلان هو أن مسألة التطبيع هي مسألة نفسية في المقام الأول، وتحتاج إلى جهد كبير، وتحتاج لأن تقدم إسرائيل قبل العرب مؤشرات صدق النية.

ولن أضرب مثلا لأدلل على ما ذكرت بالمتطرفين أو القومجية، ولكنني سوف أضرب مثلا بنفسي. فقد أتيحت لي فرصة الخروج من العالم العربي، وعشت في عالم حر تماما لا يملي فيه أحد رغباته على أحد، ومع ذلك لم أستطع ولمدة ربع قرن من الحياة مخالطا كل الأديان والأعراق في الولايات المتحدة الأميركية، وما يقرب من خمس سنوات في أوروبا، ومع ذلك لم أستطع تجاوز الحاجز النفسي للتطبيع. فقد دعيت عشرات المرات لمؤتمرات أكاديمية تعقد في إسرائيل، وكان ردي دائما بالاعتذار، ومن دون ادعاء بطولات وهمية، كان اعتذاري مؤدبا ويتلخص في أن هناك حاجزا نفسيا لا بد من إزالته قبل أن يفكر المرء في زيارة إسرائيل. أول هذه الحواجز يتعلق بالدم الذي سفك من قبل الإسرائيليين لأناس عرب لم يقترفوا جرما سوى أنهم ولدوا في فلسطين، ومن منظور تجربة رجل جنوبي لديه بقايا الإحساس بالثأر، فالصلح لا يتم ببساطة، فكرة جسدها الجنوبي الآخر أمل دنقل في قصيدة «لا تصالح». والصعيدي ليس عقلية متحجرة لا تصالح أبدا من باب العناد، ولكنها شخصية سوية تصالح وقت أن يكون للصلح لزوم، وترفض التصالح عندما يدوس الطرف الآخر على طرف خصمه. إسرائيل ما زالت تدوس على الطرف الفلسطيني، ومع ذلك يطالبنا السيناتور ميتشل بالتطبيع المجاني. موضوع التطبيع اليوم أصبح أكثر حساسية مما مضى، حيث اقتربت ساعة الحل، فهو ليس ببسيط كما كان ينظر إليه في السابق. التطبيع اليوم هو جزء من صفقة سياسية وليس مجرد موقف أو «عنتريات» نتباهى بها في الفضائيات أو في أندية الكلام. التطبيع كجزء من صفقة ليس مجرد موقف سياسي للتباهي أو للتنابذ، التطبيع موقف مطلوب التشدد في تطبيقه لأنه ليست لدى العرب أوراق غيره اليوم.

السيناتور ميتشل وفريق أوباما جملة، لا بد وأن يعرفوا أن العربي تواق للسلام، وأن حجم معسكر السلام في العالم العربي أضعاف حجم معسكر السلام في إسرائيل، ولكن للعربي تركيبة نفسية خاصة وطبيعة خاصة مهما تعلم ومهما سافر ومهما عرف من البشر. الطبع يغلب التطبع ويغلب التطبيع.

يظن الكثيرون أنه بحكم معيشتي الطويلة في الغرب، فإنني متسامح وقادر على تجاوز الارتباطات النفسية بتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ولكن هذه الأمور لا يمكن تجاوزها بسهولة، وظني أن معظم المواطنين في العالم العربي يشبهونني في تجاربهم الشخصية، أناس متسامحون ولكنهم لا ينسون بسهولة، يريدون السلام والهدوء ولكنهم لا ينسون قتلاهم وأسراهم. إسرائيل تجاوزت كل الحدود في معاملة العرب عموما والفلسطينيين خصوصا، لذا يجب أن تكون بداية التطبيع من طرفها، ليس بالزيارات والمجاملات الدبلوماسية وإنما بتخفيف حدة العنف الذي تمارسه على شعب تحت الاحتلال. نهاية غرور القوة الإسرائيلية هي أول مؤشرات حسن النية التي سوف يفهمها العرب ويستجيبون لها. هذا على الجانب النفسي، أما الجانب السياسي فهو أكثر تعقيدا.

التطبيع معناه هو سير الأمور بطريقة طبيعية بين الدول. ولكي يحدث التطبيع لا بد للدولة الراغبة في التطبيع أن تكون هي دولة طبيعية في البداية. فما هي الدولة الطبيعية؟ الدولة الطبيعية، كما يعرفها القانون، هي دولة ذات سيادة تعيش في قطعة محددة من الأرض تعرف على أنها حدودها الدولية، ويعيش بداخلها شعب له حكومة تدير شؤونه. بهذا التعريف يبدو واضحا أن إسرائيل ليست دولة طبيعية، فنحن حتى الآن لا نعرف حدود إسرائيل. فليحدثنا الإسرائيليون عن حدودهم حتى يدخلوا في عالم الدول الطبيعية وبعدها نتحدث عن التطبيع. السيناتور ميتشل رجل قانون، فهل هناك في القانون الدولي دول بلا حدود؟ بالطبع لا، إلا إسرائيل.

إذن على إسرائيل أن تبدأ التطبيع بأن تصبح هي دولة طبيعية، والباقي تفاصيل. وأهم شروط الدولة الطبيعية هو الحدود الواضحة مع الجيران بمن فيهم الفلسطينيون.

إذن الرسالة التي يجب أن يفهمها السيناتور ميتشل وكذلك الرئيس الأميركي هي أن التطبيع لا يكون إلا مع دول طبيعية، كما يجب ألا يتوقع الإسرائيليون ولا الأميركان أن يتغاضى العرب وبسهولة عن الظلم التاريخي الذي وقع عليهم. العرب متسامحون لكنهم ليسوا متساهلين.

على إسرائيل أن تلفظ العنف، وأن توقف الاستيطان الذي هو في الأساس سرقة أراضي الغير وضمها إلى أراضيها. على إسرائيل أن تعرف أيضا أن حق العودة للفلسطينيين وإن كان ليس مقدسا إلا أنه لا يقل عن حق الروس والبولنديين من اليهود في العودة إلى إسرائيل، حق الفلسطيني الذي يريد أن يعود إلى وطن أجداده الحقيقيين لا المتوهمين. ليس كل فلسطيني يريد العودة، ولكن لا يجب حرمانه من هذا الحق. على إسرائيل أن تقدم عربون النوايا الحسنة وليس العرب، لأن العرب هم من هم تحت الاحتلال، وإسرائيل هي الدولة المحتلة. المؤشرات مطلوبة من الطرف الإسرائيلي اليوم. أقول هذا بتشدد رغم ما يعرف عني من نقدي المستمر للمجتمع العربي وأوضاعه الداخلية، لكن هذا لا يبرر أن نرى الأمور من منظور القوي على حساب الطرف الضعيف.

العرب اليوم يحتاجون إلى مؤشرات واضحة كي يستطيعوا تقبل أي مشروع سلام قادم، فالقضية ليست بهذه السهولة. والمتحدث هنا ليس معروفا عنه التطرف أو الغلو أو المبالغة ولا إطلاق نعرات من أجل مكسب شعبوي رخيص، وإنما أكتب كأكاديمي في العلوم السياسية يعرف حدود الممكن، وحتى الآن لم تقدم إسرائيل للعالم العربي هذا الممكن الذي معه تستطيع المجتمعات العربية تجاوز أزمة التطبيع.

على الدول العربية جمعاء أن تتخذ موقفا متشددا في موضوع التطبيع اليوم، فقبل السلام لا بد للإسرائيليين أن يتواضعوا ويكفوا عن عنجهية القوة، فالتطبيع لا يأتي نتيجة اختلال في ميزان القوى، وإنما يأتي عندما تتوازن الأمور. كما أنه يجب على الإدارة الأميركية وكذلك مثقفي الغرب ممن يعرفون الإسرائيليين أن يقنعوهم بأن الغرور والعنصرية ليسا بداية لحل أو سلام أو تطبيع. بداية الحل في أن يتنازل الإسرائيليون عن غرورهم.

مبادرات السلام ومؤشرات حسن النوايا في المنطقة لن تجدي نفعا، ما لم تأخذ التركيبة الذهنية والنفسية للعرب بعين الاعتبار. فالطبع يغلب التطبع، والطبع يغلب التطبيع أيضا.