منطقتنا ورواياتهم

TT

يسألونك عن سر كثافة الأحداث في الشرق الأوسط، وأن كل يوم يمر كأنه دهر من الأحداث، ويسألونك عن سبب تلاحق وتصاعد الأحداث في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة من العالم. ولكن اقتطاع مشهد أسبوع فقط ووضع أحداثه تحت المجهر قد تجيب عن بعض هذه التساؤلات القديمة الحديثة، إذ لا يكاد يمر يوم دون أن تشعر أن عشرة قضايا عاجلة على الأقل بانتظار عملك وجهودك ومساعدتك، بينما عندما تسافر إلى بلدان العالم تستيقظ مع بزوغ الشمس لا لتتابع أعمالك بتركيز دون أن تشعر كل لحظة أن سقف الكون يكاد ينهار فوق رأسك، أو أن أرض الآباء والأجداد التي كانت دائما بساطا طبيعيا تنشئ عليها أبناءك تنزلق ذات اليمين والشمال من تحت أقدامك بقوى دفع خفية لا تقتفي لوجودها، أو حتى لبصماتها، أثرا.

فجأة اكتشفت هذا الأسبوع أننا لسنا منشغلين بقضايانا، بل بما يقرره الآخرون ويفعلونه ويكتبونه عن قضايانا، إذ، وللمرة الأولى، بدت لي جميع الأمور منقولة نقلا فضائيا من هذه البقعة من العالم، ولكن بالقدر والاختيار المطلوبين، وللأهداف المرسومة هناك في البعيد البعيد، ولأسباب لا علاقة لها بشعوب المنطقة وطموحاتها ومستقبلها.

مثلا، تابعت بدقة متناهية كل ما كتب عن العراق وأفغانستان في الإعلام العالمي والمحلي في الأسبوعين الأخيرين، وكانت الاستنتاجات جديرة بأن تذكر، فمعظم ما نتداوله من أخبار عن هذين البلدين هي أخبار ترشحها لنا قيادات قوات الاحتلال في البلدين، وتركز غالبا على وجهات نظر هذه القوات ومخاوفها وطموحاتها، ودرجة النجاح أو الترقب التي تمتلكها.

والشيء ذاته ينطبق على كافة وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة. فأنت تشاهد المراسلين من هيلمند يصفون الصعوبات التي تتعرض لها قوات الناتو، والكمائن الخبيثة التي يضعها لهم السكان الأصليون أو الإرهابيون، والصعوبات التي تعانيها هذه القوات، لأن الطرق غير معبدة أو جبلية، أو لأن الواقع الاجتماعي والخدمي متخلف هناك ولا يسمح لهم بالتحرك.

وتكاد تشعر في نهاية البرنامج بالذنب بالنيابة عن السكان الأصليين الذين كان من واجبهم أن يمهدوا الطرقات للقوات الغازية، وأن يجعلوا ممراتها آمنة وإقامتها مريحة. بالمقابل فأنت تقرأ الجرائد البريطانية، والمشكلة الكبرى التي تسببت بها الخسائر التي تعرض لها الجيش البريطاني في هيلمند، والصعوبات التي يعانيها رئيس الوزراء البريطاني بسبب هذه الأحداث التي يعانيها جيشه في هيلمند، والأحزان التي تلف المدن البريطانية التي تفقد أبناءها في أفغانستان.

وعناوين أخرى تفاتحك بالأخبار أن بريطانيا والولايات المتحدة مستعدتان لفتح الحوار مع المعتدلين من طالبان، وتنتهي المعادلة هنا: طالبان متشددة ومعتدلة، وقوات أميركية وبريطانية تعاني صعوبات، ولكن مع ذلك فإن العمليات العسكرية ترفع الآمال بالحوار، وبهذا يعود الفضل للعمليات العسكرية التي تقود إلى الحوار وفي كل هذه المعادلات بين خسائر القوات وحزن الأهالي على أبنائهم في الولايات المتحدة وبريطانيا، والصعوبات مع طالبان، تبقى معادلة واحدة غائبة عن الأخبار نهائيا، ألا وهي أحزان شعب أفغانستان، والقتلى من أطفال أفغانستان، والخسائر التي تلحق يوميا بالمدنيين في أفغانستان، وكل ما تجلبه الحروب من إشعاعات وأمراض تتوارثها الأجيال، كما نرى بأم أعيننا ماذا يحدث للعراقيين بعد عقود من الحروب المدمرة التي تسببت في تدمير الزراعة والبيئة والصحة والدراسة والمستقبل.

وبين آلاف الإصدارات التي لا تأتي على ذكر معاناة المدنيين في العراق أو في أفغانستان من قريب أو بعيد، تقرأ في إصدار غير معروف عالميا عن بعض القصص المروعة التي يخلفها القصف الأميركي اليومي في أفغانستان، وعدد القتلى واللاجئين الذين يخلفهم هذا القصف هناك، والذين يقضون دون أسماء أو قبور أو حتى ذكر في الحسابات العالمية، «ففي قندهار يتم دفن المدنيين تحت أنقاض منازلهم الطينية، وتتمزق أجساد الأطفال بالقنابل الأميركية».

وفي العراق أخبار الصيف تتركز على شح المياه، وانقطاع الكهرباء الدائم، واستيراد العراق للتمور، وهو الذي فاخر العالم بتموره، والجدل الدائر اليوم حول إبقائه تحت الفصل السابع بعد كل هذه الحرب المدمرة عليه، والتي برهنت كذب المعطيات المستخدمة لوضعه تحت الفصل السابع، ولشن الحرب عليه. ولا أعلم ما هو العزاء للبريطانيين، أن بريطانيا بدأت تحقيقا في الحرب، وأن توني بلير مطلوب للإدلاء بشهادته، أوليست كل هذه التحقيقات للحفاظ على ألق الديمقراطية الغربية التي تشن الحروب وتقتل وتدمر ثم تفتح تحقيقا ينتهي بتقرير يحفظ كالعادة. لأن تدمير العراق وإرجاعه مئة سنة إلى الوراء لا يمكن أن يعوض عنه أحد. لا بل، وفي اليوم ذاته الذي أعلن فيه عن إجراء تحقيقات بالحرب على العراق، يصل وزير الدفاع الأميركي إلى العراق ليعد بتسليح العراق «ضد من يا ترى؟»، وإخراجه من الفصل السابع «متى؟»، بينما يعلن الجنرال أوديرنو أن العراق لن يستطيع أن يحمي أجواءه «ممن يحمي العراق أجواءه، ومن الذي اعتدى عليه؟»، وبين هذا وذاك من ذر الغبار في العيون تتسرب العبارة الأساسية المستقبلية، «غيتس متفائل بتسوية عربية ـ كردية»، بعد مباركة انتخابات كردستان بدأت الحديث إذن عن عرب وأكراد وليس عن العراق، كما بدأ الحديث لدى دخول القوات الأميركية إلى العراق عن المثلث السني، وكانت هذه أول عبارة طائفية نسمعها في المنطقة في إعلام علني يصل كل بيت ومدرسة.

في غضون ذلك، إسرائيل تقرر رسميا إلغاء «النكبة» من ذاكرة الملايين من الفلسطينيين، وتستبدل بأسماء القرى والأماكن العربية أسماء يهودية، وتمضي بتحويل المسجد الأقصى إلى كنيس، وتستمر بهدم المنازل العربية في القدس، وبتوسيع الاستيطان، وبفرض تدريس النشيد الإسرائيلي في المدارس العربية. وقد تكون الجعجعة هناك، والطحن الحقيقي هنا، إذ إن الحديث عن تجميد، وليس إزالة أو تفكيك، المستوطنات أصبح هدفا بعيد المنال، أما القدس واللاجئون والحقوق والهوية والأرض والمياه، فقد غابت نهائيا عن الخطاب الإعلامي القادم إلينا دائما من واشنطن، فيما تعلن السيدة كلينتون مرارا وتكرارا عن ضرورة قيام الدول العربية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل.

وفي حمأة هذا وذاك تنشر «النيويورك تايمز» تقارير مفصلة عن إساءات في إيران لسجناء المعارضة، وتعيد النشر جريدة «الهيراليد تريبيون» 30 تموز 2009، بينما تنشر في اليوم ذاته جريدة «الغارديان» البريطانية والجرائد الأميركية تحركات وزيرة الخارجية الأميركية، هيلاري كلينتون، لمنع الـ«سي آي إيه» من نشر وثائق التعذيب الذي يتعرض له المعتقلون في غوانتانامو. ناهيك عن التعذيب الذي مارسته المخابرات الأميركية في أبو غريب، وغيره من السجون الأميركية العلنية والسرية، أو التعذيب اليومي الذي تمارسه إسرائيل لآلاف السجناء الفلسطينيين منذ عقود، بمن فيهم النساء والأطفال والرضع، والذي لم تأت على ذكره أي وسيلة إعلام غربية واحدة. والأنموذج هذا ذاته ينطبق على أبيي في السودان، وعلى الصومال، حيث نعرف عنهم ما يخبرنا به الغربيون، بينما ترزح هذه الشعوب تحت وطأة الحروب الأهلية والتقسيم والقرارات الدولية. ويتحدثون عن بغداد كأخطر مدينة في العالم، ولكن من فعل ذلك؟!

استنتاج واحد وبسيط من متابعة أسبوعية شاملة، لا أعتقد أنها تختلف كثيرا من أسبوع لآخر، وهي أن سكان بلداننا بدأوا يقرأون أخبار قضاياهم بأقلام القوات الغازية، والتي تبرز الجندي الغربي المحارب كمناضل من أجل نشر الحرية ومحاربة الإرهاب، بينما تتهم السكان الواقعين تحت وطأة حربته بالتواطؤ والإرهاب والهمجية. من قال إذن إن الإعلام هو السلطة الرابعة؟! أوليس هو السلطة الثانية بعد الطائرة والدبابة الغربية؟! أليس هو الذي يصوغ لنا رأينا حول ما يقوم به المدفع والدبابة ولماذا؟ أولسنا اليوم منشغلين بمخططات الآخرين لمنطقتنا بعد أن أصبح من الصعب علينا إيصال القصص التي تعبر عن آرائنا ومعاناتنا لأن من يحمل السلاح هو ذاته كاتب وناشر القصة. أما ضحايا هذه الحروب فلا وسائل لديهم حتى لإيصال قصصهم إلى أذهان وضمائر الشعوب. يا له من واقع جديد خطير تغيرت معالمه ورواياته، فهل نتكيف مع هذا التغيير. المسألة ليست سهلة ولكنها ضرورية.