حكمة من فم بائعة..

TT

من يصدق أن دولا عربية يجري فيها جدل حول موضوع النقاب هل هو سنة أم فريضة وتسمع في خضم هذا الجدل صوتا نشازا يدعو إلى مطالب صارخة، مثل ترخيص بيع الخمور أو تقنين بيوت الهوى، بل وصلت الوقاحة إلى حد المطالبة بالسماح لزواج الشواذ من المثليين، كل هذه الدعوات العربية المنفلتة تزامنت مع قرار روسيا الشهير بحظر كازينوهات القمار ونشاط الملاهي الليلية وهي البيئة التي تتكاثر فيها جراثيم البغاء وميكروباته، وهو ما أشرت إليه في مقالي السابق على أنه نسخة روسية لافتة في «النهي عن المنكر».

روسيا تحاول جاهدة كبح جماح هذا الانفلات الأخلاقي الذي أشار إليه صراحة عمدة موسكو، ليس لأسباب دينية وإنما لعوامل صحية وأمنية واجتماعية واقتصادية، وهي الآن تدرك أيضا أن الانفلات الأخلاقي بيئة عفنة لكل شر، الجريمة.. الأمراض المستعصية.. البطالة.. المخدرات.. المافيا والعصابات المنظمة.. التفكك الاجتماعي والأسري.. والتدهور الاقتصادي، وبعض عربنا لا يعرف من الحريات إلا ما يدمر الاقتصاد والأخلاق، ويطالبون الحكومات العربية من خلال هذه الدعوات النشاز أن تبدأ من حيث انتهى الآخرون، حتى نعيش قرنا آخر لنصل إلى ما وصلت إليه روسيا هذه الأيام.

إن أي مؤسسة حكومية عربية تعنى بنشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة علاوة على أنها واجب إسلامي فإنها أيضا ضرورة اجتماعية تفرضها الحاجة إلى حماية المجتمعات للوصول إلى إقامة مجتمع سليم منتج لا تنخر فيه الأمراض الأخلاقية، فإذا كان هذا الأمر مطلبا في المجتمعات المتحررة، فهو في المجتمعات العربية المحافظة ضرورة ملحة. ولهذا من المستغرب أن تكون كيانات هذه المؤسسات الحكومية التي تأمر بالخير وتحارب الرذيلة محل جدل، والأكثر غرابة أن يكون الموقف منها خطا فاصلا للانتماء إلى الخط المحافظ أو المتحرر، إذ إن «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وإن كان له واجهة ومصطلحات وبواعث دينية لكن الأمور التي يحث عليها أو ينهى عنها في الغالب مما ترغبه أو ترفضه النفوس السليمة بغض النظر عن ديانتها وتوجهاتها، إحدى مهمات الهيئات مثلا حماية السيدات من تحرش الشباب المتسكع ومعاكساتهم، وليس ثمة أحد أيا كانت ملته ومهما بلغ تحرره يرضى لزوجته أو ابنته أن يتحرش بها أو يعاكسها أو يضايقها في قارعة الطريق شاب، وقل نفس الشيء عن محاربة دور الدعارة وأوكار المخدرات والمصانع السرية لتصنيع الخمر.

لقد احتج بعض منتقدي هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية بأن الإنكار على بعض المحرمات من شأنه أن يعزز الطلب عليها، فالخمور إذا حظرت ازدهر تصنيعها في السراديب، والأفلام الماجنة إذا حوربت حرص الشباب على البحث عنها ولو بالمناقيش، وإن ضيقتم على الشباب والفتيات من الاستمتاع بلقاءاتهم لجأوا إلى عشرات الحيل لعقد هذه اللقاءات، وحجتهم الأشهر «كل ممنوع مرغوب»، وأن كل ما يحظر في العلن سيعمل حتما في السر، وهي نفس الحجة التي واجه بها منتقدو القرار الروسي الأخير بحظر الملاهي الليلية وكازينوهات القمار.

ولا جواب على هذه الحجج أكثر إقناعا من التجربة الهولندية الفاشلة التي شذت عن باقي دول أوروبا في إباحة الحشيشة بيعا وتعاطيا، فقد رأى بعض مسؤوليها ورجالات إعلامها أن التشديد في حظر الحشيشة أدى إلى تجارة مزدهرة خفية خارجة عن السيطرة، إضافة إلى أن تجريم كثير من الشباب على تعاطيها وترويجها بسبب عدم قانونيتها أدى إلى سجن كثير منهم وانزلاق البعض الآخر إلى عالم الجريمة، فقررت هولندا إباحتها، حتى أنني في زيارة لهولندا رأيت الشباب يدخنونها في الأسواق والطرقات كالسجائر التقليدية، والنتيجة أن كل الإحصاءات تؤكد أن نسبة تعاطيها زاد مقارنة بنظيراتها الأوروبية التي تحظرها.

وأخيرا أختم بهذا التصريح الغريب، فقد أجرت محطة عالمية مقابلة مع بائعة هوى عربية وسألتها عن رأيها في الدعوة لتقنين البغاء، فقالت «لا أوافق أبدا، لأنه إذا بليتم فاستتروا»، ويا ليتنا سمعناها من أفواه بعض العقلاء العرب.

[email protected]