لبنان في مرحلة «السكوت عن الكلام المباح»

TT

«الحكماء يتكلمون لأن لديهم ما يقولونه بينما يتكلم الأغبياء فقط لأنهم يشعرون

بالحاجة إلى الكلام»

(أفلاطون)

قد يكون من الظلم مطالبة اللبنانيين بالصراحة في القول والفعل في شتى الظروف. فبجانب التعايش بتكلف وشكوك متبادلة بين أبناء 17 أو 18 طائفة عبر أجيال عديدة، قلما وجد اللبنانيون أنفسهم «أحرارا» تماما في اتخاذ القرارات التي تمس مصائرهم. فهم منذ ولد تراثهم ـ الصحيح منه والفولكلوري ـ عاشوا في «مدن ـ دول» إبان العصر الكنعاني الفينيقي كما تعلمنا في المدارس. لكن هذه الكيانات الهشة المتحالفة أحيانا والمتناحرة أحيانا أخرى، كانت أيضا عرضة لأمواج القوى الإقليمية الكبرى تجرفها وتأخذها ذات الشمال وذات اليمين. وإذا نسي اللبنانيون ذلك، أو خطر لهم أن ينسوا، فإن الآثار الغنية التي تملأ بلدهم الصغير تذكرهم كل يوم بالغزاة الكثر الذين وطأت سنابك خيولهم أرضهم على مر القرون.

المهم، بعد زوال «المدن ـ الدول».. ابتكرت «الطوائف ـ الدويلات» في جبال الكيان اللبناني وسواحله ثقافة سياسية تقوم على المساومة و«الأخذ والعطاء» والتحالف الظرفي حيث كان مناسبا، أو لا بد منه من أجل غاية البقاء. واليوم تضج الساحة بالتصريحات والمقالات، والخطابات والمواقف، غير أن العقلاء الحكماء في لبنان ما عادوا يصدقون ما يسمعون وما يقرأون. فالملعب صغير واللاعبون صغار.. لكن اللعبة كبيرة. وإذا كان بعض هؤلاء العقلاء اكتشفوا منذ بعض الوقت فضيلة الصمت «وقت الخطبة الخرساء» ـ كما قال جبران خليل جبران ـ فإن الآخرين يميلون إلى الصمت من أجل تمرير مرحلة من المستحب، بل من الضروري، أن تمر بلا مشكلات وأزمات. فالناس بحاجة ماسة إلى موسم صيف ناجح يسد مردوده فاقة عشرات الألوف، قبل أن يطل الخريف، بأقساط مدارسه وعبوس طقسه و«فيروساته» المتنوعة.

أكيد، الكل يتمنى النجاح في تشكيل حكومة قادرة على البناء وتنقية الأجواء داخل لبنان وخارجه، مع الأشقاء ومع المجتمع الدولي بأسره. ولكن أيضا يفهم العقلاء حدود التمني وأن الله (عز وجل) لا يكلف نفسا إلا وسعها.

وإذا كان بعض الساسة البارعين الذين يعرفون «البير وغطاه»، كرئيس مجلس النواب الرئيس نبيه بري، قد اختاروا المحسنات البلاغية كالتورية والكناية لتشخيص «الحال المايل».. من نوعية معادلة الـ«س ـ س»، فإن أي لبناني عنده الحد الأدنى من الوعي يدرك أن القصة أكبر من ذلك. وقد يكون الرئيس بري أحجم عمدا عن الكلام عن الـ«س ـ ش» (السنية ـ الشيعية) التي هي أقرب إلى الحقيقة والواقع.

مع هذا، قد يكون من المصلحة اليوم ألا تقال الحقيقة.. وألا يكبل الواقع الجميع.

أمر آخر، ربما لا يكون من المصلحة التطرق إليه، هو موضوع صلاحيات رئاسة الجمهورية. فالاستقطاب بين فريقي «14 آذار» بثقله السني و«8 آذار» بثقله الشيعي وانقسام المسيحيين بينهما.. أتاح فرصة غير مباشرة للانقلاب على «اتفاق الطائف». واليوم، بصرف النظر عن دوافع شخص مثل ميشال عون وغايات مَن استغله خير استغلال، قد يخلق تصور ـ واهم على الأرجح ـ أن ثمة جهات «رتبت» الانقسام المسيحي، فخرج الفريقان المسلمان عن «الخطوط الحمراء» كلٌّ يعزّز حظوظ حليفه المسيحي. وبالنتيجة، بعدما استحكم الاستقطاب، المدعوم إقليميا بلا شك، غدا من الطبيعي أن يلجأ الفريقان إلى الرئاسة لكي تكون حَكَما.. عبر تخصيصها بأهم الوزارات السيادية في الدولة.

أيضا، يميل البعض إلى تأجيل البحث في أجزاء أخرى من «اتفاق الطائف»، كـ«اللامركزية الإدارية» وإنشاء مجلس شيوخ طائفي يمهد لقيام مجلس نواب لا طائفي. وكان لافتا خلال الأسبوع الماضي كلام أحد نواب حزب الله، الذي قال: «مَن يريد التصرّف على قاعدة الأقلية والأكثرية في هذا البلد عليه أن ينتظر تغيير طبيعة النظام في لبنان. أما في ظل طائفية النظام السياسي فلا يمكن الحديث عن ديموقراطية عددية ولا أكثرية تحكم وأقلية تعارض».

ما يستحق التوقف عنده في هذا الكلام، بالذات، أن النائب الكريم يقر بـ«التعددية الطائفية» لكنه، من واقع موقف حزبه، يقف ضد التعامل السياسي والمؤسساتي الصحيح معها. فحزب الله يريد ممارسة السياسة في لبنان على اعتبار أنه «كيان أحادي» مع أنه يعرف ـ كما أفادنا نائبه ـ أنه ليس كذلك.

ليس هذا فحسب، بل إن كل مواقف فريق «8 آذار» خلال السنوات الماضية هدفت إلى شل السلطة التنفيذية في البلاد بإصرارها على جعل الحكومة، التي هي ذراع تلك السلطة، «صورة طبق الأصل» من مجلس النواب. وهكذا، تستحيل المحاسبة، ويتعذر تنفيذ المشاريع، ويصبح تبني مواقف سياسية لا تعجب هذه الجهة أو تلك مجازفة قد تجر إلى فتنة.

مسألة، خارج الحدود هذه المرة، يجب في الظروف العادية بحثها بجدية، هي «التدخل» في الشأن الداخلي اللبناني. وأن بعض رموز ما كان يسمى بـ«حقبة الهيمنة السورية» جرى «تعويمهم» بقدرة قادر، فعادوا إلى الساحة بزخم.. يفاوضون زيدا، وينصحون عَمرا، ويتكلمون بالنيابة عن زيد.

ما الذي يجري بالضبط؟ وهل قطعت الأمور حقا أشواطا نحو إزالة كل مناخات انعدام الثقة كما يوحى للبنانيين؟

هل تأمنت يا ترى الضمانات الكافية لتحصين الساحة الداخلية اللبنانية الركيكة.. بينما تسرع القيادة الإسرائيلية استفزازاتها المفتعلة النازعة لإنجاز «الترانسفير»، وتتكشف نقاط ضعف الحكم الإيراني، وتدعي واشنطن أنها تمكنت من كسب رهان فصل مصالح دمشق عن رهانات طهران؟

مع كل هذا، ثمة أولويات حياتية ووجودية ربما تستحق ضرب صفح عن كل هذه الشواذ.

ربما، على اللبنانيين الصبر قليلا، والصمت كثيرا، والتفكر جيدا بأوضاعهم، ورهاناتهم، وما يمكن أن يحصل لجيرانهم ومع جيرانهم.

وبعد كل ما تقدم، قدم الله ما فيه الخير.