التطبيع مرفوض والتوطين صعب والعودة مستحيلة

TT

لم يملك جيلي من الصحافيين السوريين فرصة تأسيس صحافة سورية جديدة. كان الجيل الأسبق اسعد حظا. فقد تمكن من إصدار صحفه في عصر الانتداب الفرنسي، وفي زمن ديمقراطية الرئيس القوتلي المحدودة.

واجه جيلي عقلية عسكر الانقلابات التقليدية والأيديولوجية ثقافة مسطحة. شراهة طامعة بالسلطة. رفض مطلق للحريات السياسية. لعل العرب الذين شاهدوا وسمعوا، منذ سنين قليلة في تليفزيون «الجزيرة» المارشال «أبو عبده» أمين الحافظ، وهو يروي ذكرياته السورية، أدركوا أية ثقافة ضحلة انطوى عليها عسكر الانقلابات الذين دمروا فرص ازدهار الديمقراطية السورية الوليدة.

قبل مغادرتي سورية (1963)، عرفت المارشال «أبو عبده» حاكما عرفيا ووزيرا للداخلية. كان أبو عبده يخرج إلينا نحن الصحافيين الذين نتردد على سراي الحكومة، وهو «يزقزق» حذاءه العسكري على بلاط السراي، مهددا الشارع الشعبي الرافض لنظام البعث بالسحق والمحق، وبأقذع السباب الذي يتلفظ به فتوات وقبضايات الأحياء.

عندما أغلقت حكومة صلاح البيطار الصحف (1963)، غادرتُ سورية مع شلة من الصحافيين الذين رأوا في أنفسهم قدرة على استئناف العمل في الخارج. ثم ما لبثت المصيبة التي حلت بجيلي المهاجر أن نزلت بمن تسبب بها. فقد فر المارشال أبو عبده والبيطار وعفلق 1966. لجأ البيطار إلى مصر السادات، ثم عاد إلى سورية مصالحا الأسد، ثم «زعل» منه، فعاد إلى مصر، ومنها لحق بي إلى باريس وراح قبل اغتياله (1980) ينصحني بتخفيف الحملة على السادات وصلح الكامب.

أما المارشال أبو عبده، فقد لجا إلى العراق مع عفلق. هناك عرفا الإذلال مع الساسة الحزبيين اللاجئين. بعضهم فر من «جنة» صدام، مفضلا الاستسلام لـ«جهنم» الأسد. بعد سقوط صدام، التمس أبو عبده العفو. سمح له بشار بالعودة. فلم يعد المارشال يشكل خطرا. وحسب علمي، فهو يقيم في مدينة حلب، يلوك مرارة الخيبة، وخطأ التجربة، وذكرى الهجرة، مع أعوامه التي تقترب من التسعين.

مأساة جيلى الصحافي، بل مأساة البيطار والمارشال «أبو عبده» تلخصان كارثة الهجرة واللجوء التي يعاني منها اليوم عشرون مليون عربي، بينهم أربعة ملايين فلسطيني ومليونا سوري، ومليونا عراقي، وثلاثة ملايين سوداني. هناك أيضا ملايين المهاجرين داخل بلدانهم.

يقول الشاعر:

وظلم ذوي القربى أشدُّ مَضَاضةً

على المرء من وقع الحسام المهند

لا اعتبر لجوء الفلسطيني إلى بلد عربي منفى له. فهو مقيم في وطنه العربي. لكن المعاملة الرسمية له تختلف من بلد إلى آخر. الأردن أكثر الدول العربية منحا لحقوق المواطنة والعمل. الفلسطينيون يسيطرون على اقتصاد الأردن. لكنهم يبقون خارج دائرة السلطة والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية.

هناك اليوم جدل سياسي صاخب فى الأردن، حول ما يقال عن محاولة استرداد الجنسية من ألوف الفلسطينيين، فيما هناك ألوف آخرون لا يحملونها. السبب في هذا الجدل هو القلق الرسمي من المشروع الأميركي للحل الفلسطيني. هناك تخوف من جعل الأردن دولة الفلسطينيين الحقيقية.

في التمسك بالانتماء العشيري الذي قام على أساسه النظام الهاشمي، تزوج كل من الملك الراحل الحسين ونجله الملك عبد الله فتاة فلسطينية. جانب من هذا الزواج كان سياسيا لتأكيد اللُّحْمَة الأردنية / الفلسطينية. فعل ذلك عشرات ألوف الأردنيين.

غير أن الساسة الأردنيين القلقين على الكيان والهوية، هم الذين يثيرون التوتر في الشارع، بمغالاتهم في عصبية الانتماء.

أعتقد أن الحل الفلسطيني ليس بهذه السهولة، بل ربما ليس قريبا، كما يتصور الأردن. لكن الرئيس أوباما يرتكب خطأ تاريخيا مع العرب والفلسطينيين، في محاولة فرض التوطين والتطبيع، لإغراء وترضية حكومة شقية، كحكومة نتنياهو المتزمتة. كانت السعودية حاسمة. فقد أعلنت صراحة رفضها التطبيع قبل التسوية. آمل أن يكون لهذا الموقف القومي صداه لدى دول الأطراف، ولا سيما في الخليج، حيث نسمع دعوات، لإشراك إسرائيل مع إيران في «تأمين» الخليج!

في سورية، لا مشكلة كبيرة لتوظيف نصف مليون فلسطيني. الفلسطينيون هناك يملكون حرية كبيرة في الانتساب للمدارس السورية، وحقوقا للعمل والإقامة، لكنهم دائما تحت رقابة أشد أجهزة المخابرات السورية صرامة في الملاحقة، لمنع الفلسطينيين من حمل السلاح، ومن أية محاولة للتدخل في السياسة، كما حدث في لبنان.

خروج عرفات من لبنان لم يساهم في حل مشكلة نصف مليون فلسطيني شبه محاصرين في مخيماتهم التي لا يسيطر عليها الأمن اللبناني. كذلك تُسبب أسلحة «الجهاد» مصاعب في العلاقة مع السلطات اللبنانية. إذا كان حق عودة الفلسطينيين إلى فلسطين يبدو استحالة إسرائيلية، فتوطين الفلسطينيين في لبنان سوف يلقى صعوبة كبيرة. المسيحيون يرفضون علنا لاعتقادهم بأن التوطين يُخِلُّ بالتوازن الطائفي. أما الشيعة فيخشون إضافة نصف مليون سنيّ فلسطيني إلى سنة لبنان، بعدما بات «حزب الله» وحركة «أمل» يسيطران بالقوة على عاصمتهم البيروتية.

على كل حال. مأساة عشرين مليون لاجئ ومهاجر عربي، لا يمكن فصلها عن كارثة دولية، تتمثل الآن في هجرة ونزوح 300 مليون إنسان. هناك مثلاً خمسة ملايين عربي في فرنسا من أصول مغاربية. لكن الهجرة الأكبر التي تجتاح أوروبا مصدرها دول البؤس الأفريقية، أو من دول شرق أوروبا، هذه الهجرة التي تسبب قلقا في أوروبا الغربية، وفتورا إزاء توسيع الاتحاد الأوروبي.

انفجرت أخيرا مشكلة لجوء إيرانية. تحت ضغط إيران، اقتحمت قوات الحكومة العراقية معسكر أشرف الإيراني الذي تديره منظمة «مجاهدين خلق» المعادية لنظام الملالي في إيران. المنظمة تعلن ظاهريا استعداد خمسة آلاف «مجاهد» للعودة إلى الوطن، في مقابل ضمانات سلامة دولية، لا تقبلها حكومة طهران.

«مجاهدين خلق» منظمة سرية غامضة. أيديولوجيا، فهي تتبنى مبادئ المفكر الإيراني علي شريعتي في مصالحة الإسلام مع العصر. لكن معارضتها القائمة على العنف تسببت في صدام مع الشاه الذي سجن زعيمها مسعود رجوي. تعاونت المنظمة مع الخميني في قلب الشاه. استرضته باغتيال أميركيين. لكن تبنيها لحقوق المرأة أزعج الخميني، فقام بحلها. ردت بشن حملة استئصال جماعية للنخبة الحاكمة شريحة بعد شريحة. لكن الخميني وخلفاؤه تمكنوا من استئصالها في الداخل، بقتل ثلاثة آلاف من أعضائها.

فر رجوي من إيران بخطف طائرة. وفر معه الرئيس الإيراني الأسبق أبو الحسن بني صدر. كافأ بني صدر رجوي بتزويجه ابنته. عندما اختلفا حول استخدام العنف طلقها. عندما قتل الخميني زوجة رجوي الأولى وأعدم شقيقا له واغتال شقيقا آخر يعمل فى سويسرا، تزوج رجوي من القيادية النشيطة في التنظيم مريم عضدانلو التي طلقت زوجها لتتزوج زعيمها. فقد جمعت المأساة بينهما. قاتلت مريم نظام الشاه، فقتل شقيقتها الأولي. عندما عارضت الخميني نكب أسرتها، وعذب فى السجن شقيقتها الأخرى.

غير أن العقد المثير الذي جمع بين صدام ورجوي، كان بتدبير طارق عزيز، كما أعلم. فقد عقد الصفقة في باريس. وتم على هذا الأساس فتح معسكر أشرف (1987). كانت الصفقة بمثابة انتحار سياسي. فقد فقدت المنظمة شعبيتها في إيران. اعتبرها الإيرانيون خائنة خلال حربهم مع العراق. قدمت المنظمة معلومات مهمة لصدام. بل هي التي كشفت للغرب سر المشروع الإيراني لصنع القنبلة النووية. قصف بوش معسكر أشرف في مستهل الحرب. ثم فرض حمايته للمعسكر. لكن الانسحاب الأميركي سمح، كما يبدو لحكومة المالكي باقتحامه.