التهمة.. ارتداء بنطلون!

TT

يحتار المرء في اسلوب التفكير هذا الذي يتعامل مع الناس البالغين وكأنهم أطفال في الروضة، لا يدركون مصلحتهم، ويحتاجون الى اشخاص يدعون الحكمة وامتلاك وجهة النظر الصحيحة، ليفرضوا عليهم كيف يتصرفون في حياتهم الخاصة، وكيف يلبسون ويأكلون ويتصرفون. وبدلا من تحفيز المجتمع على اطلاق طاقاته وابداعاته يصبح الهم الاساسي هو تحويله الى مجتمع من الخائفين المنهزمين في لعبة السلالم الدولية.

في السودان، وككل مجتمع له ثقافته وعرفه الاجتماعي، فإن السلوك العام في الملبس محافظ، سواء للرجال او النساء. كانت غريبة القضية التي لا تزال تتفاعل عن الصحافية التي اتهمت مع اخرين بارتداء «زي فاضح». وعندما ظهرت الصور والتفاصيل من التقارير الاخبارية زاد الاستغراب، حيث اكتشف ان كل ما فعلته الصحافية لبنى احمد الحسين انها ارتدت بنطلونا في غاية الاحتشام، مع قميص طويل وطرحة على رأسها، وكتفيها.

وتحولت القصة الى قضية سياسية بعدما رفضت الصحافية التي حكم عليها بالجلد مع اخريات، التنازل او الاستعانة بحصانتها كموظفة لدى قسم الاعلام في الأمم المتحدة. وذلك بهدف تسليط الضوء على مادة في القانون السوداني تعاقب من يخل بالآداب العامة، وبسببها جلدت عشرات النساء بلا ذنب، لمجرد ان رجال الشرطة المعنية بمراقبة سلوك الناس لا بد ان يبرروا مرتباتهم بشيء ما. فلم نسمع انهم امسكوا من قبل بأحد يتمشي في الخرطوم بثياب البحر مثلا.

والشرطة هنا مجرد اداة. والذين ينفذون الاوامر هم في النهاية ناس بسطاء. لكن من يقف خلف الصورة لا بد ان تكون لديه فلسفة او هدف سياسي. ووسط التساؤلات عن هذا الهدف تطفو على السطح فورا اهداف من نوع اشغال الناس في مسائل ثانوية بعيدا عن الصورة العامة الحقيقية. او ارضاء حلفاء لديهم افكار متشددة يريدون تطبيقها على المجتمع لاستخدامهم في قضايا اخرى اكبر حقيقية.

مبررات التساؤل والحيرة هي ان ارتداء البنطلون ليس تهمة وليس فيه بأي مقياس عدم حشمة او مخالفة للاداب. هذا في الجانب البسيط المباشر للقضية.. اما في الجانب الأعمق فإن التحول الى شرطة اداب بينما تعصف الازمات السياسية شمالا وجنوبا وغربا لتصل الى تهديد حقيقي بتفكك الدولة، يعكس حالة هروب من الازمات الحقيقية، والاستفراد بالناس لتأكيد السلطة، بدلا من بذل جهد حقيقي حتى لو كان مضنيا في حل مشاكل المجتمع، وتحقيق تنمية حقيقية ترتقي بمستوى معيشة الفرد خدمات وتعليما ودخلا.

لقد وقفت الصحافية السودانية موقفا شجاعا باصرارها على تحويل قضيتها الى قضية رأي عام، ولتسليط الضوء على بعض الممارسات التي تعاني منها المرأة هناك. وهي تحتاج من كل المؤسسات والمنظمات والجمعيات والقوى المدنية في المنطقة التي تقول انها مهتمة بحقوق الانسان والقضايا الحقوقية، ان تقف الى جانب هذه الصحافية بالدعم والدعاية. فهذه قضية حقيقية تتعلق بحياة الناس والمجتمع، فلا تدفنوا رؤوسكم في الرمال.