لماذا الأحوال هكذا في بلادنا؟!

TT

عندما نشرت مقالي «لماذا لم يصل العرب إلى القمر؟» في هذا المكان الأسبوع الماضي (29 أغسطس) لم أكن أعلم أن الكاتب البريطاني روبرت فيسك قد نشر مقالا قريبا في المعنى والهدف في صحيفة «الإندبندنت» البريطانية في اليوم السابق تحت عنوان «لماذا تبقى الحياة في الشرق الأوسط في العصور الوسطى؟». والحقيقة أنه لم يكن المقال الوحيد في الموضوع، بل كانت هناك باقة متكاملة من المقالات العربية والأجنبية التي تتساءل عن سبب تأخر وتخلف العرب عن غيرهم من دول العالم، وسرعان ما اكتشفت أن هناك موسما كاملا للحديث في الموضوع، نابع من صدور التقرير العربي للتنمية الإنسانية الذي يصدر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، والذي بات نوعا من البحث في الحالة العربية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كل عام. والتقرير كما نعلم كان من ضمن الأدوات التي استخدمها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش عندما قرر أن تكون «الديمقراطية» هي رسالته لإصلاح العالم العربي بالقول أو بالسلاح، ولكنه في كل الأحوال شكل إضافة للمعرفة الخاصة بأحوالنا، وفرصة للمهتمين لإعادة طرح الأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها أبدا.

وربما كادت الفرصة أن تضيع هذا العام بسبب الخلاف الذي جرى بين مصدري التقرير ومحرره الرئيسي الدكتور مصطفى كامل السيد ـ أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة ـ الذي أخلى مسؤوليته من كل ما جاء فيه، في نفس الوقت الذي كان فيه البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة يعقد مؤتمرا في بيروت لمناقشة الحقائق المؤلمة الجديدة عن العالم العربي.

وبدون الدخول في كثير من التفاصيل فإن جوهر الخلاف كان حول ما إذا كان أصل البلاء في عالمنا العربي، والمصدر الأساسي لتهديد أمنه الإنساني هو التهديد الخارجي ـ العدوان والاحتلال من قبل قوى خارجة عن العالم العربي ـ أم أنه نابع من داخله نتيجة تخلف الأبنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدول العربية المختلفة.

والحقيقة أن كلا الطرفين لم ينكر أهمية ما يثيره الطرف الآخر، ولكن الهدف السياسي لكل منهما كان مختلفا، فالمحرر المنتمي إلى اليسار العربي كان يريد إعلانا بإدانة الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي، والمنظمة المنتمية إلى تجمع دولي واسع كانت تقول إنه لا يوجد احتلال يمنع دولا وأمما من أن تعيش في شوارع نظيفة، أو تعلم أولادها استخدام تكنولوجيات حديثة. وكان ذلك هو ما قاله روبرت فيسك ـ وهو من المحتفى بهم عادة في الدوائر القومية واليسارية العربية ـ إن الصراع العربي ـ الإسرائيلي لا يفسر حالة التخلف العربي الراهنة التي تجعل الدول العربية حسب وصفه تنتمي إلى العصور الوسطى.

السؤال إذن مطروح سواء بشكل موسمي، أو حتى بشكل دائم منذ طرح لأول مرة في القرن التاسع عشر عندما اكتشف العالم العربي أنه متخلف عن بقية دول العالم، وأنه نتيجة هذا التخلف قد بات مطمعا لكل الطامحين في استغلاله. ولكن السؤال الآن له طبيعة مختلفة، ليس فقط لأنه قد مر قرنان منذ طرح التساؤل، أو لأنه مرت عقود طويلة على التخلص من الاحتلال الأجنبي والحصول على الاستقلال، وإنما لأن دولا كثيرة من دول العالم مرت بنفس التجربة التي عشناها، ولكنها استيقظت لكي تلحق بركب التقدم العالمي بشكل أو بآخر، رغم ما عاشته من تجارب مريرة.

وإذا أخذنا بالأرقام والمؤشرات والإحصاءات، فإنه لا توجد تجربة عربية تماثل ما جرى في كوريا الجنوبية أثناء الحرب الكورية، أو تشابه ما جرى في الصين من تمزيق وحروب طاحنة، أو تقترب من الهند التي مزقتها الدول الاستعمارية واستنزفتها لقرون طويلة، أو ذلك الشعور القاسي بالهيمنة الأجنبية عندما تعيش دول صغيرة أو متوسطة بجوار دول عملاقة.

ولا بد أن كثيرين في المكسيك مثلا حسدوا دولا عربية كثيرة لأنها بعيدة عن أمريكا، وقد لخص هذا الحسد قول واحد من الحكماء «بائسة أنت أيتها المكسيك لأنك بعيدة كثيرا عن الله وقريبة جدا من الولايات المتحدة»، وكان ذلك هو الحال في كل الدول القريبة من الصين أو روسيا أو ألمانيا أو أي من الدول العظمى.

السؤال إذن تغيرت طبيعته والبيئة التي تولد فيها، وربما كانت المعضلة أنه توجد فيه درجة عالية من التعميم غير الواجبة حيث لا توجد أية صلة بين التدخل الأجنبي وما يجرى في الصومال من حرب أهلية ضروس، بل إنه حيث يوجد التدخل والاحتلال الأجنبي فإنه لا يعطى تبريرا مثلا لحالة الانقسام الفلسطيني الحاد، حيث لا يوجد سبب واحد سوى انتفاء الشعور بالمسؤولية السياسية الوطنية يمنع اتحاد حماس وفتح. وربما كان على علم الاجتماع السياسي أن يبحث في هذا البعد المهم الخاص بفطرة «المسؤولية السياسية» عن التغيير والتقدم والإصلاح والديمقراطية إلى آخر الأهداف النبيلة المعروفة. فمن الغريب، على سبيل المثال، أن النخب السياسية العربية تحملت المسؤولية السياسية الخاصة بالاستقلال عن الدول الاستعمارية، وسواء خاضت حروبا عسكرية أو سياسية، أو كلتيهما معا، حيث تحملت تضحيات هائلة، فإنها في النهاية وصلت إلى الهدف، ولكنها بعد ذلك لم تعرف، ومعها الشعوب العربية، ما الذي تفعله بهذا الاستقلال؟

مثل هذه الحالة شاركتنا فيها دول كثيرة في العالم، ولكن عند نقطة تاريخية بعينها وقفت النخبة مع نفسها بثقة وجدية ونظرت في المرآة وكانت على استعداد لكي ترى القبح حتى آخر مداه. وكان هذا الوقت في دول جنوب شرق آسيا بعد انتهاء الحرب الفيتنامية وانسحاب الولايات المتحدة، ومن يومها ولدت النمور والفهود الآسيوية المعروفة، وفي الصين كان انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني عام 1978، وفي الهند كانت انتخابات عام 1992، ومثيلتها في المكسيك. ومن ينظر في تجارب البرازيل والأرجنتين وغيرها، يجد نقاطا تاريخية فاصلة كانت كلها تدور حول مجموعة نقاط: أن الحالة الراهنة مزرية، ولا يمكن استمرارها، وأن الطريق إلى تجاوزها متاح من خلال حزمة من العلم واستخدام العقل والتنمية للثروة والمشاركة الشعبية، وغير ذلك لا يوجد إلا الانفجار والحروب الأهلية والمجاعات والتخلف عن ركب العالم.

في العالم العربي توجد كل الشواهد على لحظة الاختيار. وعندما تساءلت لماذا لم يصل العرب إلى القمر مثلما فعل الأمريكيون، جاء 26 تعليقا على المقال، كان بعضها ينكر تماما أن الوصول إلى القمر قد حدث فعلا! وربما كان هؤلاء أقلية، ولكن حالة الانفجار في الصومال، واحتمالاته في السودان واليمن والعراق قائمة بقوة، غير أحوال كثيرة من القلق في لبنان والجزائر، وبالطبع فإن الحالة الفلسطينية ماثلة دائما للعيان. وكل ذلك يقول لدول «مستقرة» إن ما تحظى به ليس مضمونا دائما، لأنه مع تدقيق الفحص فإن علامات المرض لا تخطئها عين. ولكن رغم أن الحالة تبدو واضحة، فإنها لم تصل بعد إلى النخب العربية، التي لا نقصرها على الحاكمين، وإنما هي ممتدة إلى البيروقراطية المدنية والعسكرية وأجهزة الثقافة والإعلام، وكل هؤلاء لا يزالون غائبين عن الصورة بل ولديهم شكوك قوية في أن شكلها يماثل ما أشرنا إليه من نذر. وأكثر من ذلك فإنهم يشعرون بأن التشخيص لقضية التخلف يرجع إلى غياب الديمقراطية الذي يشكل نوعا من المنازعة على السلطة السياسية كما جرى في تجارب عربية كثيرة من قبل؛ ومن لا يصدق فإن عليه مراجعة الحالة الموريتانية القريبة حينما ترك الجنرال مكانه لرئيس منتخب لم يلبث أن أقاله من مكانه جنرال آخر بتأييد من المجلس التشريعي «المنتخب» حتى تم تأييد مكانة الجنرال مرة أخرى في انتخابات «حرة» صدقت عليها جماعات المراقبة الدولية المعتمدة!

السؤال إذن أعمق بكثير مما نتصور، ولا توجد إجابة بسيطة عليه، ولا تنفع معه الحالة الموسمية التي يطرح فيها، وأظن أن التعرف على تجارب الدنيا في الماضي والحاضر سوف تكون مفيدة، ولكن المفتاح يوجد دائما في يد النخبة التي أشرنا إليها وقدرتها وشجاعتها على طرح غير المألوف والتقليدي، والقضية مفتوحة دائما في كل الأحوال؟!