كل إناء بما فيه ينضح

TT

في منطقة حائل علقت سيارة في وادٍ يهدر بالمياه الصاخبة المتلاطمة، وكانت هناك امرأة تصارع المياه ومهددة بالغرق في داخل السيارة، وفجأة اندفع شابان في مخاطرة مؤكدة واستطاعا بعد جهد جهيد أن يخرجا المرأة ويصلا بها إلى بر الأمان، بعد أن كاد الثلاثة جميعهم يلاقون حتفهم غرقا.

ولا أدري إلى الآن هل كان السائق هو زوجها أم قريبها، لأن الأخبار لم تذكر عنه شيئا! الاحتمال الأكبر أنه نفد بجلده وترك المرأة وحدها، لأنه لو كان قد غرق لذكرت الأخبار ذلك.

وقد قلد الملك هذين الشابين أوسمة الشجاعة.

إلى الآن الموضوع مقبول، ويمكن أن يتكرر.

ولكن لو قرأتم ما قرأته أنا في (الإنترنت) من تعليقات وتداعيات على هذه الحادثة، فلا شك أنكم سوف تتعجبون (على الأقل) من بعض العقليات التي لا تمت إلى شرف الحياة (الإنسانية) بأية صلة. طبعا هناك من أشاد بما قام به الرجلان، وهؤلاء لا أريد أن أتحدث عنهم لأنهم (أسوياء) طبيعيون. غير أن هناك فئة أخرى منغلقة تجدف دائما ضد تيار الحياة المتقدم، كان لها رأي آخر مخالف، وهذا ما أريدكم أن تنتبهوا له لتعرفوا إلى أين نحن ذاهبون!

أولا: بدلا من أن يحمدوا لهذين الشابين ما أقدما عليه، راحوا يصبون جام غضبهم عليهما، واعتبروا أنهما ارتكبا إثما ومنكرا بالإمساك بامرأة ليست من محارمهما (!!) ـ لاحظوا (ليست من محارمهما) ـ وهم يقولون ـ مع أنني أشك جدا في أقوالهم ـ إنهم يقولون: إن المرأة التي كانت مشرفة على الهلاك تمنعت وقاومت الرجل الذي أراد إنقاذها، ولكنه هو الذي أرغمها وأمسك بها بما يشبه الاغتصاب (!!) ـ لاحظوا أيضا كلمة (الاغتصاب) ـ ويعلّق آخر ممتدحا تلك المرأة قائلا: والله إنها بنت رجال، وتفضل الموت دون أن يلمسها أحد.. ويرد عليه ثالث: تشوفون بكرة (العلمانيين) يدخلون السباحة للنساء في المدارس وغيرها، تراهم نهازين فرص ويستغلون المصائب لتمرير أفكارهم.

أما الرابع فيورد حادثا مشابها ويقول: حكي لي أحد الإخوة في الحج، أنه وسط الزحام في طواف الوداع، وكان الناس يموجون، وإذا بفتاة تتعثر وتسقط على الأرض، والناس بتدافعهم وتزاحمهم يكادون يطأونها، فمد أحد الرجال يده ليمسك بها وينتشلها، فوالله إن تلك المرأة الشريفة سحبت يدها منه وكأن في يده نارا، فأي حياء أروع من ذلك الحياء؟! وهي تفضل الموت ولا يمسك بيدها رجل أجنبي تحركه (غريزته) السيئة، فلله درها من فتاة مؤمنة محتسبة، ولها الجنة إن شاء الله. طبعا هذا الكلام لا يدخل العقل، ولا أستبعد أنه (مفبرك) من قبل أناس لهم أمزجة (الوحوش).

فعلا: إن (كل إناء بما فيه ينضح)، و(كل يرى الناس بعين طبعه). ولكن هل هم تدبروا وفهموا الآية الكريمة القائلة: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً»، هل هم تدبروها وفهموها يا ترى؟!

اكتشفت الآن أن الموضوع كله من أوله إلى آخره ليس فيه ما يضحك ولا كذلك ما يبكي، إنما فيه ما يؤسف ويحزن ويفجع، والمشكلة (المركّبة) أنهم (غائبون عن الوعي).

إن الواحد من هؤلاء ليس مصابا بفشل كلوي، ولكنه مصاب بفشل عقلي والعياذ بالله.

[email protected]