غريب في بلاد غريبة!

TT

مدرسة العالم النفسي الكبير فرويد ترى أن كل متاعب الإنسان قد بدأت في الطفولة.. فالطفولة كنز لا يفنى.. وقد وجدت أن الكثير من الذي عانيته رجلا قد بدأت في طفولتي وامتدت إلى بقية حياتي. والأمثلة كثيرة..

فقد لاحظت أن اتجاهي إلى الفلسفة الوجودية غريبا.. فنحن طلبة الفلسفة أنفسنا: شيوعيون وأخوان مسلمون ووجوديون..

وكان أستاذنا الدكتور عبد الرحمن بدوي هو الذي قدم لنا الفلسفات الوجودية الألمانية والفرنسية والروسية والإسلامية..

وأول كتاب عن الوجودية باللغة العربية كان كتابي سنة 1951 عنوانه «الوجودية»، وهذا الكتاب قد طبع أربع مرات في شهر واحد ونفدت نسخه المائة ألف.. ولا بد أن يكون السبب هو أن الموضوع على لسان الناس. وأنه جاء في عبارة سهلة.. ولكن لماذا الوجودية؟ فقد كانت طفولتي قلقة.. شديدة القلق. وكنت أقيم في الريف.. وكان والدي ينتقل من مكان إلى مكان.. وكان مديرا لزراعة عدلي باشا يكن ثم عز الدين بك يكن ثم نعمت هانم يكن.. هو يتحرك ونحن وراءه. وكنت وحدي مع أمي، وأمي هي مصدر العلم والحكمة. وما تقوله قانون.. ولم أعرف إلا في سن متأخرة أنه يمكن مناقشة قوانين أمي والاعتراض واختيار سبل أخرى للمعرفة..

والصورة هكذا: أنا وحدي وقد انكفأت على القراءة.. وليس لي أصدقاء ولا زملاء. فأنا تلميذ متفوق والزملاء لا يحبونني ولا يلعبون معي. وأنا أجلس في الفصل في الصف الأول فإذا سأل المدرس كنت أول من يرفع يده.. وكان من نتيجة هذه العزلة أو هذه الوحدة شعوري بالغربة والاغتراب. ولم يحدث أن قلت: شارعنا.. بيتنا.. أقاربي.. أصحابي.. وإنما أقول: الشارع البيت الزملاء.. فليس لي شيء عند أحد.. وأحسست أن المثل الإغريقي القديم ينطبق تماما على مقاسي.. المثل يقول: الحجر المتحرك لا ينبت عليه العشب.. فأنا هذا الحجر ولم ينبت على هذا الحجر الدائر الدائخ، لا صداقة ولا مودة ولا قرابة ولا أخوة.. وظل الكثير من المشاعر الإنسانية العادية نوعا من الترف. وفى إحدى المرات بكيت على نفسي، فقد وجدتني أجلس في سيارة يطير الغبار وراءها ليلا. وقد وضعت ساعة الحائط على حجري وملابسي وكتبي والى جواري.. وأحسست إنني حانوطي وأن الزمن قبر. والنعش على ركبتي..

وكلنا في قبر الليل.. أو وحدي في قبر مع الليل والوحدة والغربة. وكلها مفردات وعلامات الطريق الذي يفضي إلى الوجودية.. أو هو الطريق الحتمي لأن أكون وجوديا.. وكنت. وعجز الزمن أن يزحزح أو يحرك أو يلغي شعوري بأنني غريب في أرض غريبة.. وكما أنني ولدت وحيدا وعشت وحيدا، فالنهاية أيضا!