ماكو عدالة

TT

لعل القارئ يتذكر ما كتبته بالأمس عن مسؤولية بعض الساسة العرب عن ابتلائي بظاهرة الشرود وفقدان القدرة على الإصغاء، وحقي في مقاضاتهم عن إصابتي بهذه العاهة المزعجة والمكلفة. فبنتيجة ما أسمعونا من هراء فقدت القدرة على الاستماع للناس. أقسم بالله إنني قضيت ليلة في أرق وقلق ممض، أفكر وأبتهل لله أن لا أقع في هذا الشرود في حضرة رئيس إحدى الدول العربية، وهو يحدثني صباح اليوم التالي عن منجزات حكومته ورفاه شعبه، ثم ينظر إلي فيجدني شارد الذهن لم أصغ لكلامه قط فيغتاظ مني ويحرمني من الهدية.

وهذا هو السر في أنني قلما أستشهد بأحد من ساستنا في مقالاتي. أنا لا أتذكر أي شيء مما قالوه. ولا أملك غير أن أحسد زميلنا أنيس منصور على سعة اطلاعه وقوة ذاكرته عما سمعه منهم.

هذه عاهة أصبحت تزعج حتى أعز أصدقائي، ولا سيما عندما يكلمونني عن أحوال العراق. بيد أن هذه العاهة قد تضاعفت الآن بفقدان القدرة على القراءة أيضا. فمنذ زمن طويل انقطعت عن قراءة مذكرات الزعماء العرب والصحف العربية. بيد أنني قررت مؤخرا الانقطاع عن الصحف الإنجليزية أيضا. تنقلت من التايمس إلى الإندبندنت ثم الغارديان ووجدتها جميعا لا تجرؤ على قول الحقيقة تماما. ولم ألومها؟ فحتى هذا الرئيس الأمريكي الجبار لا يجرؤ على انتقاد إسرائيل، خشية أن يتهموه بمعاداة السامية.

الحقيقة أن الصحافة تحولت كليا في هذه الأيام إلى سجل من الهم والغم. لا تجد فيها خبرا مفرحا قط. ولم المشقة يا رسول الله؟ بدأت أفهم لماذا يقتصر الجمهور الإنجليزي على قراءة الصحف الصفراء الرخيصة. ولكن حتى هذه الصحف أصبحت فوق مستواي. من الأسبوع الماضي، قررت الاكتفاء بالجرائد المجانية التي توزع علينا في القطارات. لا تجد فيها غير أخبار الجريمة والجنس والفضائح، من خانت من ومع من، وإعلانات التعارف، من يريد عشيقة عندها بيت، ومن تريد عشيقا عنده فلوس. أليس من حقي مقاضاة كل من اشتغل في الصحافة ومطالبتهم بتعويضات عادلة عما فقدته من هبة القراءة والفهم؟

بيد أن أم نائل أصرت على مواصلة الاشتراك بصحيفة الغارديان. تقرأها كل يوم ثم تروي لي عن آخر السرقات في العراق وعدد من قتلوا في غزة، وكيف أصبح الرجال في دبي يتكلمون اللغة الروسية. عبثا حاولت تذكيرها بعدم ذكر أي شيء عما يجري في العالم العربي، أو في العالم كله في الواقع. بيد أنها ككل النساء، وليست العربيات منهن فقط، لا تصغي لكلام زوجها. يظهر أن عدم الإصغاء عاهة معدية وانتقلت إليها. إذا استمر الوضع على هذه الوتيرة، فلربما اضطر إلى تطليقها والبحث عن زوجة لا تعرف أي شيء عن العالم العربي، ولا يعنيها أي شيء مما يسرقه رجالاته ويموت به أطفاله ويعبث به ساسته وتتشدق به فضائياته وإذاعاته، زوجة لا يعنيها من الدنيا غير صبغ أظافرها.

www.kishtainiat.blogspot.com