«فتح» تعقد مؤتمرها وتثبت أنها رقم لا يقبل القسمة

TT

كلُّ هذا الاهتمام بمؤتمر «فتح» ـ الذي بدأ أعماله (الثلاثاء) الماضي ومن المنتظر أن يستمر حتى بعد غدٍ (السبت)، والذي لم يحظ به أي مؤتمر سابق لهذه الحركة التي أصبح عمرها أربعة وأربعين عاماً ـ هو أنه أول مؤتمر ينعقد في فلسطين وأول مؤتمر بعد رحيل ياسر عرفات (أبو عمار) وبعد انطلاقة العملية السلمية وإقامة السلطة الوطنية، ثم لأنه أول مؤتمر يُعقد بعد إقامة دولة حماس وانفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية، وكذلك أول مؤتمر بعد أن فعل فاروق القدومي (أبو اللطف) ما فعله ووجه إلى محمود عباس (أبو مازن) الاتهامات التي وجهها إلى مسؤول هو الرئيس الفلسطيني الشرعي المنتخب.

وأيضاً فإن هذا المؤتمر، الذي جاء بعد تأجيل استمر نحو عشرين عاماً منذ أن انعقد المؤتمر الخامس في تونس عام 1988، يحظى بكل هذه الأهمية لأنه جاء والقضية الفلسطينية تدخل منعطفاً تاريخياً حقيقياً، حيث تتواصل جهود عالمية وأميركية، جدية هذه المرة، لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط وحل القضية الفلسطينية على أساس إقامة الدولة المستقلة المنشودة إلى جانب الدولة الإسرائيلية، وفقاً لحدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

كان المؤتمر الخامس الذي انعقد في تونس عام 1988، بعد غياب خليل الـوزير (أبو جهاد)، بقراراته وتوجهاته السياسية المدخل الأول إلى العملية السلمية الجارية الآن والتي كانت قد توقفت في محطة مؤتمر مدريد الشهير، وأنجزت اتفاقيات أوسلو وخارطة الطريق وتفاهمات أنابوليس والتي منحها العرب دعماً تستند إليه الآن بإطلاق مبادرتهم الشهيرة التي بدأت باسم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وكان وقتها ولي عهد المملكة العربية السعودية ثم تبنتها قمة بيروت في عام 2002.

والمفترض أن هذا المؤتمر، الذي غاب عنه ـ كشهداء ـ بالإضافة إلى ياسر عرفات (أبو عمار) كل من صلاح خلف (أبو إياد) وخالد الحسن (أبو السعيد) وهايل عبد الحميد ورتلٌ طويل من رموز الصف الثاني في هذه الحركة وفي ساحة العمل الوطني الفلسطيني، هو المحطة الرئيسية نحو الدولة الفلسطينية المستقلة التي بشَّر بها هؤلاء جميعاً والتي أصبحت الآن وفقاً لكل التقديرات المتفائلة على مرمى حجرٍ من التحقيق وعاصمتها القدس الشرقية.

كانت هناك مساعٍ جادة لمنع انعقاد هذا المؤتمر قامت بها حركة حماس وقام بها فاروق القدومي، الذي اختار أن ينهي حياته السياسية بهذه الطريقة المأساوية، بدعم من إيران وإحدى الدول العربية الصغيرة لكن ما لا يعرفه هؤلاء أن «فتح»، التي رفعت منذ انطلاقتها شعار أنها رقم لا يقبل القسمة، قد مرَّت بظروف أسوأ من هذه الظروف ولكنها بقيت متماسكة وبقيت هذا الرقم الذي لا يقبل القسمة.

في بداية سبعينات القرن الماضي وفي أعقاب أحداث أيلول الشهيرة في الأردن افتعل نظام البعث في العراق، الذي كان يقوده الثنائي أحمد حسن البكر وصدام حسين، الانشقاق الذي قاده صبري البنا (أبو نضال) وكان وقتها ممثلاً لمنظمة التحرير في بغداد والذي أعلن تنظيما، خارج إطار حركة التحرير الوطني الفلسطيني تحت اسم (حركة فتح – المجلس الثوري)، ارتكب باسمه كل الجرائم والموبقات التي ارتكبها والتي بقي يرتكبها في الساحتين الفلسطينية والعربية وعلى مدى العالم بأسره إلى أن تخلص منه الذين أطلقوه من القمم، واستعملوه كبندقية مأجورة لأكثر من ثلاثين عاماً، بقتله عشية الحرب الأميركية على العراق في عام 2003.

ثم وبينما كانت حركة «فتح» قد خرجت تواً من حصار بيروت الذي استمر لنحو ثلاثة شهور وكانت تبحث عن مرتكز قيادي جديد لها بعد الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية واحتلال القوات الإسرائيلية لنحو نصف لبنان افتعلت سورية الانشقاق الثاني عام 1983 في هذه الحركة، وهو انشقاق أُطلِقَ عليه اسم «حركة فتح – الانتفاضة» بقيادة (أبو موسى) و«أبو خالد العملة»، والأسباب هنا كثيرة ولا مجال لذكرها الآن.

والملاحظ أن الظاهرة الانشقاقية الجديدة، التي لا تزال تحوم حولها الشبهات والتي كانت ارتكبت جـريمة مخيم نهر البارد الدامية في الشمال اللبناني وجرائم أصغر كثيرة، قد أُطلق عليها اسم «فتح الإسلام»، والواضح أن المقصود هو تشويه حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» في الوقت الذي كانت تواجه فيه انقلاب حماس وفصْل غزة عن الضفة الغربية، وبينما هي لا تزال تلملم نفسها لتعبئة الفراغ الذي تركه رحيل (أبو عمار) في وقت حَرِجٍ وبصورة مفاجئة وبينما كانت تُطْلَبُ منها استحقاقات كثيرة بالنسبة لمسيرة السلام المتعثرة.

والآن إذْ انعقد مؤتمر «فتح» السادس رغم كل محاولات تخريبه ومنعه من الانعقاد والمشاغبة عليه، فإنه يمكن الجزم وبصورة قاطعة أن هذه الحركة ستبقى رقماً لا يقبل القسمة، وأن مصير فاروق القدومي (أبو اللطف) الذي لم يستفد من دروس الماضي وتجاربه سيكون وفي أحسن الأحوال كمصير صبري البنا (أبو نضال) وكمصير أصحاب «فتح – الانتفاضة» الذين اُستخدموا لفترة سابقة ولظروف معينة وباتوا الآن يجلسون على قارعة الطريق يعيشون بطالة سياسية كمعظم قادة الفصائل المقيمة في العاصمة السورية.

إن ما لا يعرفه الذين راهنوا على أن «فتح» سوف تتشظى وتنتهي قبل أن تصل إلى هذا المؤتمر هو أن القبائل والعشائر الفتحاوية قد تختلف داخلياً وربما تتقاتل أيضاً لكنها ما تلبث أن تسمو فوق كل خلافاتها وتعارضاتها وتناقضاتها عندما يهددها خطر خارجي، وهذا هو ما جرى عشية انعقاد المؤتمر السادس الذي بدأ أعماله يوم الثلاثاء الماضي والذي قد يستمر حتى يوم السبت المقبل.

حتى الذين حاولوا أن يلعبوا لعبة «فتح» غزة و«فتح» الضفة الغربية فإنهم قد أكدوا بما فعلوه أنهم لا يعرفون هذه الحركة ولا يعرفون أن من قادتها الغزيين الأوائل كلٌّ من ياسر عرفات (أبو عمار) وخليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد) وكمال عدوان و(أبو يوسف النجار) وممدوح صيدم (أبو صبري) وسليم الزعنون (أبو الأديب)، ويجهلون أنها حركة وطنية عامة لا تعرف المحاصصة وأن الذي يرأسها الآن ويرأس منظمة التحرير والسلطة الوطنية هو محمود عباس (أبو مازن) الذي هو من مواليد صفد في شمالي فلسطين المحتلة وكان قد لجأ مع أهله إلى سورية في عام 1948.

لقد شهد هذا المؤتمر الذي هو أهم مؤتمرات «فتح» على الإطلاق في اليومين الأوليين من انعقاده مواجهات سياسية حامية وجدية حول مسيرة السلام وحول انفصال غزة عن الضفة الغربية وحول انقلاب «حماس» وحول خسارة الانتخابات التشريعية السابقة لكنه سيشهد في ما تبقى له من الوقت اتفاقاً على هذه الأمور جميعها وهو حتماً سيتبنى كبرنامج سياسي ما تضمنته كلمة (أبو مازن) الافتتاحية تجاه عملية السلام تحديداً كما أنه سينتخب لجنة مركزية، لن يكون من بين أعضائها لا فاروق القدومي (أبو اللطف) ولا محمد جهاد الذي انشق معه، بل ستضم باقي ما تبقى من الآباء المؤسسين ومن الرعيل الأول بالإضافة إلى عدد من رموز جيل الشباب وفي مقدمتهم مروان البرغوثي الذي يقضي الآن عدداً من الأحكام المؤبدة في السجون الإسرائيلية.

إنها انطلاقة جديدة وأن «فتح» التي أثبتت مجدداً ومرة أخرى أنها رقم لا يقبل القسمة، سوف تقود المشروع الوطني الفلسطيني خلال السنوات المقبلة كما قادته على مدى العقود الأربعة الماضية. والسر هنا هو أنها ليست حزباً سياسياً عقائدياً وأنها ليست تنظيماً شمولياً ولا منظمة تم إنشاؤها في أحد أقبية المخابرات العربية، إنها حركة الفلسطينيين كلهم بكل اتجاهاتهم، وأن القومي يجد له مكاناً فيها على غرار ما يجده الإسلامي واليساري وحتى الشيوعي.. وأن ما يجب أن يقال في هذا المجال هو أن قانون هذه الحركة ينص على أن كل فلسطيني لا ينتمي إلى أي تنظيم أو منظمة أو حزب آخر هو عضو كامل العضوية فيها.