اتحاد المتوسط.. أمس واليوم

TT

حينما أعلن الرئيس ساركوزي فكرة الاتحاد من أجل المتوسط، من طنجة في 22 أكتوبر 2007، تبادر إلى نفوس المغاربة التفكير في أن عاصمتهم المتوسطية كانت منذ تسعة وأربعين عاما منبرا لإعلان فكرة وحدة المغرب العربي، (24 أبريل 1958) بتزامن مع إعلان ست دول أوربية (25 مارس 1957) لفكرة توحيد أوروبا، للتخلص من جراح الحروب والاتجاه نحو بناء لمستقبل مشترك. ورأى البعض في المشرق أن اتحاد المغربي العربي ذو نكهة انفصالية.

وكانت قد سبقت مؤتمر طنجة المغاربي اتصالات حثيثة بقصد بلورة ما سمي في حينه بروح «فاس ـ فلورانسا» كمشروع قوي وأخاذ يرمي إلى شحذ الأفكار من أجل جعل المتوسط بحيرة سلام، رغم أن الأجواء كانت تغلي بتوترات عصية على التسوية.

كان استقلال كل من المغرب وتونس، وظهور دول ناهضة مثل مصر 23 يوليو، والحركية المحتدمة في شرقي المتوسط، ظواهر تنبئ بأشياء قريبة الحدوث.

وأدرك المغرب أن له مؤهلات ليقوم بدور. وظهرت ملامح هذا الدور بمجرد إنشاء وزارة الخارجية، التي كان من أسمائها في الهيكلة الحكومية العتيقة «وزارة البحر». وبعد اتصالات ولقاءات حاشدة تمت هنا وهناك من أرض المغرب، وفيما بين المغرب وتونس، لمعت لدى الاحتفال بتوأمة مدينتي فاس وفلورانسا (فيرينزي كما ينطقها أهلها) فكرة جعل تلك التوأمة حدثا يسجل البعد التاريخي لعلاقات متوسطية عريقة، بين مدينة كانت منارة للعلوم في القرون الوسطى الأوربية، ومنها نقل البابا سلفيستر الثاني الأرقام العربية التي تعلمها في جامعة القرويين، وبين مدينة في الضفة الشمالية كانت مهدا للنهضة في إيطاليا.

ولم يكتف الأمر بمداعبة التاريخ، بل التحرك من أجل خلق تاريخ جديد. وكانت منصة الإطلاق هي تلك التوأمة، وكان عراب الحفلة هو البروفيسور لابيرا عمدة مدينة فيرينزي.

ووجدت فكرة لابيرا صدى فوريا في فاس. فالمغرب حينما يغيب عن المتوسط يتخلى عن شيء حيوي من بين مكوناته، إذ يحرم نفسه من أن يكون صلة وصل بين البحار والبلدان والثقافات، ومنصة للحوار.

ومنذ أن فقد المغرب سبتة ومليلية أصبح بمثابة ذلك العملاق الذي فئقت عيناه اللتان كان يبصر بهما المتوسط. وأصبح يعاني من وجوده في بحر الروم بدلا من أن يساهم في صنع تاريخه، وانكفأ على نفسه منشغلا بفتنه الداخلية عن النهضة التي كانت تعتمل بجواره.

وكان التعلل، في ظل أجواء النصف الثاني من الخمسينيات، بأن «السلام ممكن» في المتوسط، من ضرب الأوتوبيات التي لا يمكن تصورها إلا في الخيال. ولكن تم في فاس، بعد تدوير رؤوس أقلام براغماتية، الاتفاق على جعل لقاء فلورانسا خطوة جريئة في ارتياد الممكن.

وقام اللقاء على أساس أن المشاركين فيه مدعوون وحاضرون بصفاتهم الشخصية، ولكن دون التخلي عن «توريط» بعض الرسميين في بعض الفقرات الاحتفالية، مثل رئيس الجمهورية الإيطالي وسفراء ووزراء سابقين. وكان الالتزام الوحيد الواضح هو من الجانب المغربي حيث أناب محمد الخامس ولي عهده مولاي الحسن لتمثيله في اللقاء، علما بأنه كان قد وقع الاتفاق منذ دورة فاس أن يكون هو رئيسا للقاء.

وكان غرض المغاربة في الأساس هو تحقيق خطوة أخرى في المجال الدولي بالنسبة للقضية الأولى حينئذ في جدول أعمال الدبلوماسية المغربية وهي قضية استقلال الجزائر. وكانت الصعوبة الكأداء أمام كل مبادرة من قبيل مبادرة (فاس ـ فلورانسا)، هي أن فرنسا تعتبر الجزائر جزءا من ترابها الوطني.

وشارك من الفرنسيين رجال من طراز جان روس الصديق القديم للحركة الوطنية المغربية، وكذلك المؤرخ شارل أندري جوليان، والمستعرب جاك بيرك، والمستشرق لوي ماسينيون صديق الحلاج. وكلهم معروفون بأنهم مقتنعون بأن السلام ممكن وبالذات من مدخله العويص، ألا وهو استقلال الجزائر.

وكان سهلا على المغاربة أن يقنعوا محاوريهم من وراء «البيريني» بأن المغاربيين جميعا يفرقون بين فرنسا الاستعمار، وفرنسا القيم النبيلة التي دخلت بها التاريخ العالمي . وأنهم مؤمنون بالصداقة مع فرنسا بقدر إيمانهم بأن المدخل لذلك سيكون هو الاعتراف بحقيقة بديهية في العالم أجمع، سوى عند بعض الفرنسيين، وهي أن الجزائر ليست من فرنسا.

وكانت لمحمد الخامس ورقة راجحة في الحوار العويص الذي كان يخوضه مع الفرنسيين، وهي أنه أمكن خلق علاقة خاصة بين المغرب وفرنسا، حلت محل العلاقة التي كانت في السابق، وأن المرحلة الاستعمارية أصبحت صفحة طواها الزمن.

شاركت في لقاء فلورانسا الذي انعقد فيما بين 3 و5 أكتوبر 1958 ستون شخصية كانوا جميعا يدركون أنهم يؤسسون عملا له ما بعده. وكان هؤلاء يمثلون عشرة بلدان. وفي جلسة الافتتاح أطلق الأمير المغربي إحدى أفكاره المحكمة، التي نجح طيلة حياته في أن يعبر بمثلها عن خططه بإيجاز معجز، إذ دحض فكرة «صراع الحضارات» بقوله «إن المشكلات ليست في الأديان بل في سدنتها».

وحفل لقاء فلورانسا بأشياء وقعت لأول مرة. فقد انسحب سفير فرنسا احتجاجا على وجود المرحوم بومنجل ممثل الجزائر. وعلى العكس كانت هناك علامات تبعث على التفاؤل بأن الحوار ممكن. وسجل الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي، المبشر بـ«الشخصانية الإسلامية»، أنه لأول مرة وقع في فلورانسا أن حضر في نفس المكان رجل مثل علال الفاسي (الزعيم المغربي المعروف) بما يمثله، والفيلسوف Plessner القادم من الجامعة العبرية بالقدس.

والآن، بعد نصف قرن من (فاس ـ فلورانسا) اختفت إحدى أكبر مشكلتين كانتا تعترضان طريق «السلام الممكن» في المتوسط وفي العالم، وهي قضية استقلال الجزائر. لقد سهل المغرب الحوار بين الجزائر وفرنسا، وكان هدفه واضحا وانحيازه أوضح، وهو أن السلام لا يقوم إلا باستقلال الجزائر.

وحينما جاء دوغول إلى الحكم وعرض على محمد الخامس تسوية الحدود الشرقية، رفض العاهل المغربي ذلك العرض، مفضلا كما قال صراحة وعلانية، أن ينتظر، إلى أن تكون التسوية «مع جزائر مستقلة»، حتى لا يذهب الظن إلى أنه يسوي مشكلته الخاصة مع فرنسا على ظهر أشقائه.

وكان حواره مع فرنسا يتم في كنف الشفافية والوضوح. إنه يريد تسهيل السلام، ولكن مع وضوح خارطة الطريق. وكان المغرب وسيطا مقبولا وموثوقا به.

وما زالت قائمة إلى الآن القضية الشائكة الثانية في جدول أعمال (فاس ـ فلورانسا)، وهي حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم الوطنية. وطيلة ما مضى من الوقت حافظ المغرب على وضوح موقفه وشفافية طرحه. وفي لقاء إيفران بين المرحوم الحسن الثاني والرئيس الإسرائيلي الحالي شيمعون بيريس، قال العاهل المغربي لمخاطبه إن المقصود من اللقاء ليس هو السياحة السياسية بل البحث عن حلول. وتشاءم من أن مخاطبه لم يكن حاملا لمقترح سوى ربط العلاقات.

واليوم يمكن للمغرب أن يقوم من جديد بمسعى، مثل ما صنع مع فرنسا من أجل الجزائر، كوسيط له قبول ومصداقية، ولا مصلحة له مباشرة في أي سيناريو قد يتقدم به.

ولم لا يتم تفويضه بأن يقوم بمحاولة تؤدي إلى أن «السلام ممكن» في المتوسط، من مدخله الفلسطيني؟