ما لا يُترجم

TT

كان شيكسبير يشبه حبيبته بـ«يوم صيف» Summer’s Day، وكانت الصورة في غاية الجمال والروعة. أن تكون المرأة في الجزر البريطانية كيوم صيف، فهذا أبلغ ما يمكن أن يوصف به جمالها. الصيف في بلاد شيكسبير نادر، مشرق، دافئ، وهذه الصفات تليق بالمرأة الجميلة. الإنجليزي يقضي شطرا قصيرا من عمره مستمتعا بالصيف، وشطرا آخر طويلا في انتظاره، لا شيء يضاهي الصيف في هذه البلاد إلا المرأة.

لكن ماذا عن الشاعر العربي الذي تلقف الصورة عن نظيره الإنجليزي، وانطلق فرحا بالصورة الشعرية الجملية، وفي أول مناسبة لقي فيها حبيبته، صاح بها: «أنت هذا الصباح تشبهين يوم صيف»، ناسيا أنه يخاطب حبيبة تعيش في عدن أو بغداد أو الكويت أو القاهرة. التعبير الشعري «أنت كيوم صيف» إهانة بالغة لجمال المرأة العربية، إنك عندما تقول للمرأة في عدن مثلا: أنتِ كيوم صيف، فإنك بكل بساطة تقول: إنها قطعة من نار جهنم، حيث يطيب للصيف هناك أن يكون حارقا بدرجة لا يوازيها إلا حرقة شعور هذه المرأة وهي تفاجأ بأن أحد الثقلاء يُشبهها بيوم الصيف.

ما الذي جرى؟ لماذا عندما شبه شيكسبير محبوبته بيوم صيف، جاء التعبير الشعري جميلا دافئا وأنيقا، بينما خرج التعبير نفسه من فم الشاعر العربي البائس كشواظ من نار؟

الجواب واضح وسهل: إنها الترجمة. هناك في اللغات ما لا يترجم.

تعبير شيكسبير جميل لأن يوم الصيف في بريطانيا جميل ونادر ودافئ ومشرق. يمشي الإنجليزي وأول ما يرى قطعة شمس تسربت من خلل غيم لندن الكثيف، يلقي بنفسه في بقعة الصيف النادرة. شعور الإنجليزي في الصيف شعور جميل مرح، وهذا ما جعل تعبير شكسبير دافئا ولذيذا. وبالمقابل، فإن صورة الشاعر العربي غير دقيقة لأن يوم الصيف في عدن والكويت وبغداد والقاهرة والخرطوم جحيم حقيقي.

المناخ إذن لعب دوره لصالح شيكسبير. واللغة ـ أي لغة ـ إنما هي منتج طبيعي لبيئتها: اللغة الإنجليزية منتج للطقس البارد، بينما العربية منتج للطقس الحار. ولذلك يقول الإنجليزي «قلبي دافئ» ويقول العربي «عيني باردة» وهذه هي اللعبة التي أغفلها شاعرنا العربي الحديث في تأثره بالأدب الغربي بشكل عام.

والأمر ـ إلى هذا الحد ـ قد لا يجرُّ على الشاعر العربي إلا بعض الملاحظات الفنية، لكن المسألة تختلف تماما عندما ينقل الشاعر العربي عن نظيره الغربي صورا جميلة مرتبطة بالتراث الثقافي أو الديني أو الفلسفي الغربي.

كثير من الشعراء في الغرب ـ على سبيل المثال ـ تأثروا بصورة المسيح حاملا صليبه فوق ظهره في الأدبيات المسيحية، وأنتجوا تشكيلات من الصور الشعرية ضاربة بجذورها في عمق التراث الديني المسيحي. جاء الشاعر العربي وأعجبته صورة المسيح حاملا صليبه، وأدخلها ـ بغض النظر عن سياقها ـ في بنية القصيدة العربية الحديثة، لكن أثر الصورة لدى المتلقي العربي ـ المسلم كان مغايرا بشكل دراماتيكي لأثرها في نفس القارئ الغربي.

عندما يقول الشاعر الغربي مثلا: «سأحمل صليبي وأمضي» فإن الصورة تعطي لمتلقيها إيحاءات معينة تدور حول قيم الحب والتضحية والصبر والفداء، تلك القيم التي جاء المسيح لتجسيدها في التراث المسيحي.

جاء الشاعر العربي، انبهر بهذه الصورة الشعرية وتداعياتها الفنية ضمن سياقها الثقافي، ونقلها أحيانا نقلا حرفيا إلى قصائده من دون مراعاة لاختلاف السياق الثقافي والديني للصورة. لم تعط الصورة الأثر المطلوب في السياق الثقافي العربي ـ الإسلامي، بل على العكس أرسلت هذه الصورة الشعرية إيحاءات بالمروق والخروج على الثوابت الدينية وأحيانا التبعية الثقافية، على النقيض تماما من الإيحاءات الجميلة التي أعطتها الصورة في سياقها الثقافي الغربي.

بشكل مختصر: الشاعر الذي «يحمل صليبه ويمضي» في الأدب الغربي شاعر مؤمن، بينما الشاعر الذي «يحمل صليبه ويمضي» في الأدب العربي شاعر مارق تلاحقه دعاوى الخروج على الدين.

ما الأمر؟ لماذا أعطت الصورة ذاتها إيحاءات شعرية مختلفة؟

الجواب بسيط أيضا. إنه النقل الحرفي من دون مراعاة للسياقات الثقافية والفلسفية والدينية للصورة الشعرية في لغتها الأم.

لم ينتبه الشاعر العربي إلى أن إيحاءات الصليب عند المتلقي العربي محملة بذكريات مرة في الوعي الجمعي العربي، تتمثل في استدعاء قرون من الحملات الصليبية على الأرض العربية تحت راية الصليب، وما واكب ذلك من دمار ومجازر وتخريب لبيت المقدس، ظلت صورته عالقة قرونا طويلة في ذهن المتلقي العربي: المسلم والمسيحي على حد سواء، علاوة على أن المسيح في الأدبيات الإسلامية لم يُقتل ولم يُصلب «ولكنْ شُبـِّه لهم» كما ورد في القرآن الكريم.

اللغة الإنجليزية ـ إذن ـ فيها كثير من الصور والتعبيرات ذات البعد الديني ـ المسيحي حتى وإن لم تعد تُحيل على إيحاءات دينية خالصة، والعربية كذلك فيها الكثير من التعبيرات ذات البعد الإسلامي، وعدم الانتباه لمثل هذه السياقات المختلفة يعطي رسائل متضاربة للمتلقي عند ترجمة الأعمال الأدبية الغربية أو عند التأثر بها من دون إدراك للخصوصية الثقافية لبعض تعبيراتها وصورها الشعرية.

ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإنني عندما جئت إلى بلاد شيكسبير وقد كنت أسكن مع عائلة إنجليزية في جنوب إنجلترا، سألتني ربة المنزل إن كنت أريد كأسا من الشاي، فرددتُ سريعاً: ) Thank youشكرا)، فقالت السيدة:

«Thank you; yes or no» (شكرا.. نعم أم لا؟) بمعنى أنه في اللغة الإنجليزية عندما تسأل «هل تريد كأسا من الشاي؟ فإنك ينبغي أن تقول: نعم، شكرا، أو لا، شكرا»، بينما في العربية قد تقول «شكرا» فقط، ويفهم ضمنا أنك تعني الموافقة مع الشكر. وهكذا تختلف اللغات تبعا لاختلاف البيئة والمناخ والثقافة والدين والبشر أنفسهم وسبحان القائل: «ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين». صدق الله العظيم.

* كاتب يمني مقيم في بريطانيا