التحولات الجنبلاطية والأوضاع اللبنانية

TT

في ليل الثلاثاء 4/8/2009، وبعد وصول وزير الثقافة والإعلام السعودي عبد العزيز الخوجه إلى بيروت واجتماعه إلى النائب وليد جنبلاط، بدأت الأخبار «المطمئنة» من أوساط جنبلاط تتسربُ إلى وسائل الإعلام، ومؤدَّاها أنّ القديم باقٍ على قِدَمه، وأنّ جنبلاط لا يزال يحسب نفسَه على 14 آذار والأكثرية النيابية التي فازت في الانتخابات الأخيرة، وبالتالي لا عقبات أمام تشكيل الحكومة التي يترأسها سعد الحريري.

وبغضِّ النظر عن مدى دقّة تلك الأخبار، وحظوظ «التفاؤل» في الاستمرار؛ فإنّ الأيّامَ الثلاثةَ التي أَعْقبتْ خطابَ النائب جنبلاط أمام المؤتمر العامّ للحزب التقدمي الاشتراكي، حفلت بالتحليلات الصحافية والتلفزيونية عن أسباب ما قاله الزعيم الدرزي في المؤتمر، وتوقيتاته، ونتائجه. وكان جنبلاط قد قال في خطابه إنه دخل في تحالف 14 آذار لضروراتٍ موضوعية، وإنه ليس من الممكن البقاءُ فيه بعد اليوم. وأَطلق الرجل العنان في استعراضٍ لتاريخ الحزب وميراث كمال جنبلاط جاء فيه أنّ الجوَّ الطائفي والقَبَلي والمذهبي الذي يسود الساحة، وساد في الانتخابات، يدفعُهُ بوحيٍ من تاريخ حزبه وهويته وانتمائه لمراجعةٍ تُعيدُهُ إلى اليسار والعروبة وفلسطين، بعيداً عن التقوقع والانعزال. وكانت النتيجةُ المباشرةُ لخطاب جنبلاط و«تموضُعاته» الجديدة، بحسب التعبير اللبناني المستجدّ، تعطيل تشكيل الحكومة لأَمدٍ يطول أو يَقْصُر. ذلك أنّ صيغة 15+5+10 التي توصَّلَ إليها الرئيس المكلَّف سعد الحريري مع حزب الله وحركة أمل، والتي تجاوز فيها الثُلُثَ المعطِّل العتيد، تحسبُ جنبلاط ووزراءَهُ من ضمن أكثرية الـ15 لقوى 14آذار. وقد أضاف جنبلاط لاحقاً ـ رداً على استنكار أطراف من الأكثرية ـ أنه لن يذهب إلى تحالُف 8 آذار؛ بل سينتهج خطاً وسطاً تحت مظلّة رئيس الجمهورية؛ أما في مجلس النواب فربما استقلَّ هو بنواب الحزب، وترك للنواب المسيحيين في «اللقاء الديمقراطي» الخيار في البقاء ضمن تحالُف 14آذار.

والواقع أنّ كلام النائب جنبلاط هذا ليس جديداً، بل ردَّد أجزاء منه طَوالَ حوالي العام منذ أحداث بيروت والجبل في 7ـ9 أيار 2008. وقد تركز جهدُهُ بعد اتفاق الدوحة على استعادة علاقاته القديمة بنبيه بري رئيس مجلس النواب، وعلى إجراء مصالحة مع حزب الله من خلال اللقاء بنواب الحزب وصولاً إلى اللقاء مع السيد حسن نصر الله زعيم الحزب بعد الانتخابات النيابية. وخلال فترة الأشهر الأربعة تلك، اتّجه للمجتمع الدرزي بالجبل مُحاولاً إقناع أركانه من المشايخ والوجهاء والحزبيين بفوائد تجنُّب الصدام مع الشيعة، ووصل به الأمر إلى مُحاججة المعترضين على المسالك الجديدة بالقول: إنّ الأصولية السنّية أخطَر من الأُصولية الشيعية. وبالقول إنه كان مُخطئاً في الاطمئنان إلى الأطراف المسيحية في 14 آذار، لأنّ الموارنة على الخصوص «جنس عاطل». ثم اتّسعت مقارباتُهُ لتتناولَ «إعادة» الدروز إلى العروبة وفلسطين كما قال، ومهاجمة السياسات الأميركية بالمنطقة، والخروج من ممارسات الانعزال و«لبنان أولاً» إلى العروبة والحركة الوطنية والمقاومة. ثم في خطابه الأخير أمام مؤتمر حزبه عاد للتأكيد أنّ العروبة إنما تمرُّ من خلال سورية. وهكذا تبلورت عبر حوالي العام أربعة جوانب في الخطاب المعلَن للنائب جنبلاط: جانب التصالُح مع حزب الله بعد أن ساد العداءُ بينهما طوال ثلاث سنواتٍ ونيّف ـ وجانب الابتعاد التدريجي عن أقطاب 14 آذار المسيحيين بحجة انعزاليتهم وطائفيتهم مع الاحتفاظ بعلاقةٍ شخصيةٍ طيّبة بالنائب والرئيس المكلَّف سعد الحريري ـ وجانب العودة للخطاب القديم في العروبة وفلسطين ـ وأخيراً الذهاب عَلَناً باتّجاه سورية بعد عداءٍ شديدٍ لها طوال أربع سنوات.

ما هي أسبابُ الخطاب الجديد لوليد جنبلاط، أو كيف يمكن فهم تحولاته؟ هناك أولاً المخاوفُ والتوجُّسات التي أحدثتْها لديه وقائع وأحداث 7 أيار (مايو) 2008. فقد اجتاح يومَها حزب الله وحلفاؤهُ (حركة أمل والحزب القومي السوري، وبعض الميليشيات السنية التي كوَّنها الحزب) بيروت، ثم مضوا باتجاه الجبل حيث اصطدموا بالدروز في الشويفات وجوار عاليه وقُراها، تاركين قتلى وجرحى وخراباً. وقد قال جنبلاط يومَها لكثيرين إنّ السُنّة الذين تحدثوا كثيراً عن السلاح والتسلُّح ما قاتلوا، وإنّ قوة الحزب قاهرة، وإنه لا بد من مُسالمته أو يقع نزاعٌ وحربٌ أهليةٌ بين الشيعة والسنة، وهي حربٌ إن وقعت فلا يريد أن يكون الدروزُ وَقودَها. وعندما نشرت مجلة الشبيغل الألمانية مقالتَها الشهيرة عن احتمال وجود دورٍ بارزٍ لجهاز الأمن في حزب الله في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ازدادت مخاوفُ جنبلاط من النزاع الداخلي، وقال وقتَها إنّ على سعد الحريري أن يعرف الحقيقة ثم يُسامح أو يكتفي بذلك. وفي نظر المراقبين أنّ تلك الهواجس دفعته للاستماتة في مُصالحة حزب الله، واستطراداً النظام السوري.

وهناك ثانياً الضغوط التي أحسَّ بها من جانب حلفائه المسيحيين على مشارف الانتخابات النيابية. فقد شعر كما قال للكثيرين إنّ هؤلاء وبخاصةٍ جعجع والجميل، لا يُهمُّهُم إلاّ مصالحهم الخاصة وعدد النواب الذين يمكن أن يكسبوهم منه ومن سعد الحريري، وهم كمن يريد بيع جلد الدبّ قبل صيده. وهذا فضلاً عن ارتباطاتهم الأجنبية، والتي تزيدُ في قوقعتهم، وفي عدائهم للمقاومة وللعروبة! وقد أمكن للنائب سعد الحريري وبصعوبةٍ شديدةٍ إقناعه بالبقاء في صفوف 14 آذار حتى الانتخابات، لكي لا تخسرها قوى ثورة الأرز، أمّا الخلافاتُ فهي تفصيليةٌ ويمكن معالجتُها لاحقاً. وأَظهر جنبلاط قَبولاً لهذا الطرح، لكنه ظلَّ شديد الشكوى من حلفائه المسيحيين، ثم من شعار « لبنان أولاً» الذي أطْلَقَهُ سعد الحريري.

وهناك ثالثاً الأَوضاع بالمنطقة، والخطاب التوافُقي للرئيس أوباما، ووقوف إسرائيل في وجه محاولات تجديد مفاوضات السلام. ومن وجهة نظر جنبلاط وكثير من المُراقبين أنّ إسرائيل ستلجأُ للحرب على حزب الله وربما على إيران، لتغيير مسارات الإدارة الأميركية الجديدة. وإذا تعرض حزب الله لضربةٍ أو سدَّد ضربةً استباقيةً إلى إسرائيل بواسطة قوته الصاروخية؛ فإنّ ذلك يعني اضطراباً شديداً بالداخل اللبناني، وقد يتحول لنزاعٍ داخليٍ، يريد جنبلاط تجنُّبه أو البقاء على الجانب الآمِنِ فيه. ثم إنه في حالة النزاع مع إسرائيل، يريد هو أن يكونَ مع قوى التحرر والمقاومة.

وهناك رابعاً مُسارعة الأطراف الدولية والعربية لمُسالمة سورية، ومُحاولة إخراجها من التحالُف مع إيران (وحزب الله) إلى العودة للمفاوضات من أجل تحرير الجولان، وإنجاز ترتيبات جديدة للأوضاع في منطقة الشرق الأوسط. وسواءٌ أنجحت تلك المحاولات أو لم تنجح؛ فإنّ موقع سورية يتغير بالتدريج من النبذ والحصار إلى الاستيعاب والاحتضان وتغيير الوجهة وإنْ ببطء. وهناك دلائل وظواهر على عودة نفوذها في لبنان، وهذه المرة عبر المسيحيين ورئيس الجمهورية. وقد تزعَّم جنبلاط في السنوات الماضية ـ كما هو معروف ـ التيار المُعادي لسورية، كما تزعم التيار المُعادي لحزب الله. ولذلك ارتأى من ضمن تحولاته لتأمين النفس والطائفة والدَور، وعبر الوسطاء والخطابات، أن يحاول مدَّ اليد لسورية. وليس هناك أدلة على استجابة سورية لحركاته حتّى الآن. لكنه ـ كما قالت صحيفةُ السفير قبل أيام ـ يستطيع الآن الاطمئنان إلى أَمْنه بحيث يسير بدون حراسة، وربما استطاع الذهاب إلى سورية آمناً أيضاً.

وهناك خامساً القلقُ الذي تشعر به الأقليات في المرحلة الجديدة التي دخلت فيها المنطقة، ودخل فيها العالم. وهذه المرحلةُ ـ بخلاف السابقة ـ هي مرحلةُ الأكثريات والكُتل الكبيرة. ولذلك تتحرك الأقليات المسيحية وغيرها لإعادة التموضُع إمّا بالتحالف فيما بينها، والاستظلال بسورية كما في السابق، أو اللّواذ بإحدى الأكثريات. وقد كان وضْع جنبلاط جيداً عندما كان يقود الغالبية الشعبية والنيابية. ثم انفردت الكُتَلُ الكبيرةُ بزعاماتها أو انفردت زعاماتُها بها. وهكذا وعلى مشارف الانتخابات وجد جنبلاط نفسَه شبه وحيد. فذهب باتجاه حزب الله ثم سورية حيث القوة والعصبية والحلفاء السابقون. وفعل ذلك فُرَقاء مسيحيون قبل الانتخابات وبعدها. وها هو رئيس الجمهورية يطالب بتعديل الدستور من أجل ضمانةٍ أقوى للمسيحيين من خلال تقوية صلاحيات الرئيس. وبالإضافة لذلك؛ أي الاصطفاف مع القوي؛ فإنّ حركة جنبلاط باتجاه الوسط تجعلُ منه بيضة القبّان عندما يسودُ الصراعُ بين الكُتَل الكبيرة؛ إذ إنّ سائر الأطراف تكونُ محتاجةً إليه، بدلاً من أن يكونَ جزءًا صغيراً في كُتلةٍ كبيرةٍ وشاسعة.

وسواءٌ أَبَطَّأَ جنبلاط من حركته وتنقلاته الآن، بالضغوط العربية والمحلية، أو استمرَّ في تقلباته؛ فلا شكَّ أنه أَنجز نقلةً بعيدة المهوى من منزلة العدوّ الأول لحزب الله وسورية في لبنان، إلى منزلة طالب الودّ والمُستخذي أمام الطرفين. وستكون لهذا التحول آثارُهُ في التركيبة السياسية اللبنانية الحالية، بعيداً عن الأحكام الأخلاقية والأَيديولوجية. فالسياسة لدى عُتاة الدوغمائيين هي وعْيُ الضرورة؛ وجنبلاط ليس منهم بالتأكيد؛ بينما هي لدى الأحنف بن قيس: تَجرُّع الغُصَص، وانتهاز الفُرَص!