أين أنت؟ إنني لا أعرف!

TT

أحب المدن الصغيرة.. أحب القرى الإيطالية. لأنها جميلة أو لأنني أرى جميلا كل ما هو إيطالي: لغة أو أرضا وغابات وبنات. وأنا ككل المحبين لا أعرف بالضبط، فأنا أحب بالجملة. ولا أجد سببا لأن أعرف لماذا وكيف؟ إنني أحب. وفي العام الماضي ذهبت إلى مدينة صغيرة اسمها ريفرنيو وسمعت ما قاله العشاق مثلي عن هذه المدينة الصغيرة.. ولكن ما سمعت ولا رأيت إلا ما أردت أنا وليس الذي أرادوا.. وقالوا لي هنا جلس الشاعر دانتي.. هنا نام الشاعر داتسيو.. هنا أقامت سلفيانا ما نجلونو.. وأنا مالي؟ فهل لأنها جاءت جئت.. هل لأنها نامت نمت.. إن كل شيء جديد أراه كأن أحدا لا رآه ولا لمسه ولا سمعه ولا تمناه قبلي.. فأنا في هذه الجنة لست في حاجة إلى حواء.. لا أريد شريكا في هذه الغابات والجبال والبحيرات والفراشات والزهرات.. وإن احتجت إلى حواء أشرت إلى أية ورقة أو وردة أو فراشة فكانت ما أريد..

أشاروا إلى نبع ماء، لا أعرف من أين يجيء الماء رقيقا فضيا، دموع عين سعيدة.. قطرات لؤلؤ نزلت من خد لا أراه.. طلبت أن أسمع أغنية شعبية من صوت شجي.. صوت رجل يجلس بعيدا عني، وجاء الرجل وأجلسوه بعيدا.. راح يئن من حنجرته ويشدو شجيا ويقول ويردد الأغنية التي سمعتها ألف مرة في رحلاتي الأربعين أو الخمسين إلى إيطاليا.

تقول الأغنية: أين أنت إنني لا أعرف أين أنت..

ليتني أعرف.. فماذا لو عرفت ماذا لو عرفت ماذا؟ لو عرفت كل هذا.. بعض هذا.. أنت وسط هذا.. أنت وحدك يا هذا.. أين أنت.. أين أنت ليتني ما عرفت.

الشاب الذي زلزلني وهو يبكي من حنجرته، لم تظهر وهو يغني فراشة، ولا عصفور، ولا سحابة، كأنه (أورفيوس) الإغريقي الذي عندما كان يغني كان الكون كله يتوقف عن الحركة.. حتى الأسماك في الماء تخرج لتسمع.. حتى الطيور تقف في الماء.. حيث أوراق الشجر تتساقط طريقا أخضر أيضا ناعما تحت قدميه..

كنت أقول له: مرة أخرى يا فرانشيسكو أنا أطلب إليه أن يعيد ويزيد.. لا هو سكت ولا أنا مللت.. ففي كل مكان في القرى الإيطالية يجدون حكاية يخلقون أسطورة.. وأهم الأساطير أن يجيء الفنان العظيم دافنشي إلى هنا يرسم نيرانا وقلعة ويكون أحد المعالم السياحية.

أو يجيء الشاعر دانتي أو بتراركه ويجلس على هذه الصخرة تحت هذه الشجرة.. ولقد أحصيت أكثر من عشرين مكانا وقف وجلس ونظر إليها الشاعر.. وهم يصدقون ذلك لأنهم يتمنون ذلك. واستأذنت العمدة إن كان في استطاعتي أن أنقش اسمي وأقول: جئت ورأيت وأسعدني ما رأيت وتمنيت أن أشغل شيئا من المكان في هذا التاريخ الأسطورة!