لا فض فوك أيها الملك (تحليل لمقومات الدور السعودي الرائد)

TT

نقطع هذا الأسبوع برنامج تأصيل منهج نقد الذات في الإسلام لكي نفرد هذا المقال لتحية الرجل العربي المسلم ذي القامة الشامخة، والشجاعة الأدبية والسياسية النادرة وهو الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي شق الصمت العربي والإسلامي والدولي، وبدد الحيرة على هذه المستويات جميعا من خلال (برقية إيقاظ العقل والضمير) التي أرسلها إلى قادة فتح وهم يعقدون مؤتمر حركتهم في الأسبوع الماضي.. وفي حقيقة الأمر: لم نبتعد عن منهج (نقد الذات) ـ في دوره التطبيقي - ونحن نحتفي ببرقية الملك الهُمام.. فهذه البرقية (الوثيقة) صورة رفيعة ونزيهة وجريئة وناجزة من صور تطبيق نقد الذات (كان المقال المعد الذي أفسح المجال لهذا المقال الماثل، كان عن تطبيقات النقد الذاتي)

لقد انطوت برقية الملك الذي اتسع صدره لحمل هموم أمته - وهو في إجازته القصيرة -: انطوت على رسائل عديدة: عالية القيمة، ذكية الرمز:

1ـ الرسالة الأولى هي: الصدع بالحق العقدي والتاريخي في التوكيد على الروابط الروحية والقداسية بين المسجدين العظيمين: المسجد الحرام والمسجد الأقصى. فقد استهل الملك كلمته إلى المؤتمرين في (بيت لحم) بما يلي: «من ربوع البيت الحرام استذكر الآية الكريمة (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير).. إنني أشعر أن هذه الآية الكريمة قد أقامت وحدة روحية حقيقية خالدة لا تنفصم بين الذين يؤمّون المسجد الحرام وبين المقيمين في رحاب المسجد الأقصى. ومن هذا المنطلق تجيء رسالتي هذه من الأرض المقدسة: لا تحمل مشاعري فحسب، بل مشاعر أكثر من ألف مليون عربي ومسلم يشعرون أن قضيتهم الكبرى - قضية فلسطين - توشك أن تدخل نفقا مظلما لا خروج لها منه إن لم تتداركها رحمة الله».. فمن مضامين هذه الرسالة الأولى:

أ- تجديد الوعي بالمفهوم القرآني الكبير الذي قرن المسجد الأقصى بالمسجد الحرام في آية تتلى - في الصلوات وغيرها - منذ نزول الوحي إلى قيام الساعة.. فالمسجد الأقصى (نص قرآني خالد)، وليس مجرد مسألة سياسية عابرة.

ب- أن الولاية على المسجد الحرام التي ينهض بها الملك السعودي - وظيفة ولقبا - تضمن تفاعلا دائما، وتآخيا مستمرا مع المسجد الأقصى ومع من حوله من المؤمنين: من حراسه وأهله والمدافعين عنه.

ج- إسلامية القضية الفلسطينية وعروبتها، وإحياء الوعي العام بذلك، فهي قضية أكثر من ألف مليون عربي ومسلم، لا قضية عشرة ملايين فلسطيني.

د- هذه المضامين كلها: رد واضح وقاطع على العدوان الصهيوني المتلاحق على القدس: انتهاكا لحرمته، وتشريدا لسكانه بعد اغتصاب بيوتهم وأراضيهم، وتهويدا لطبيعته بوجه عام.. وهذا جزء من أفاعيل العدو في الضفة والقطاع.

والغريب المريب: أن العدو وهو يقترف كل هذه الفظائع والجرائم، يصر - في الوقت نفسه - على (تطبيع) العرب معه!! وهذا الإصرار دليل مادي ومعنوي على أنه (عدو مجرم متكبر)، كما وصفته ـ بحق وشجاعة - برقية الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى مؤتمر فتح.. وهو وصف يمحو ـ بإطلاق - الأراجيف المعادية التي تزعم أن هناك نوعا من التطبيع بين السعودية وبين هذا العدو، وهي أراجيف مصدرها صهيوني يتمنى ثم يكذب على نفسه فيصدق أمانيه، ومن الأمة (سمّاعون له): أولئك الذين يزعمون معاداة الصهيونية!!

2- الرسالة الثانية في البرقية الشريفة الشجاعة هي: (إحياء وتذكر) التاريخ النضالي لحركة فتح. وهذا الإحياء شهادة بالحق من جهة، وحفز على المحافظة على مكاسب هذا النضال من جهة أخرى، ولا سيما أن هذا النضال يكاد يضيع بين التيارات المتضاربة في الساحة الفلسطينية، أي يضيع بين التفريط فيه وبين الجحود له.. نقرأ في برقية الملك: «عندما انطلقت حركة فتح بقيادة الأخ الشهيد المناضل ياسر عرفات - رحمه الله - كانت بمثابة الشعلة التي أحيت الصمود العربي، وحولت اليأس أملا، وانتقلت فتح من نصر إلى نصر، وتولت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بجدارة واقتدار حتى ارتبط اسمها في الوجدان العربي والإسلامي بالنضال الصلب والكفاح الصادق. وأنا اليوم لا أخاطب فتح الحركة، وإنما أخاطب فتح الرمز الفلسطيني العربي الإسلامي، وأخاطب من خلال فتح كل الفصائل الفلسطينية، وكل مواطن فلسطيني، ومواطنة فلسطينية بلا استثناء».. ومن مضامين هذه الرسالة: التوكيد الأمين على عبرة تاريخ الكفاح الفلسطيني، فقد كادت تنسى هذه القضية الكبيرة في ظروف نشأة كفاح حركة فتح، فجاء هذا الكفاح فأحيى القضية ليس في الوعي الفلسطيني فحسب، بل أحياها (في الوجدان العربي والإسلامي بالنضال الصلب والكفاح الصادق) - كما جاء في برقية الملك السعودي بالنص - ، وفي هذا التوكيد استحضار لعنفوان النشأة في الضمير والعقل الفلسطيني، وهو استحضار ينبغي أن يكون له مقتضاه التطبيقي في الفكر والسلوك والموقف.. ومن هذه المضامين: أنه حين يتسلح الفلسطينيون بالصدق والجد والمسؤولية في خدمة قضيتهم تلتف حولهم - بصدق وجد كذلك ـ أمتهم العربية الإسلامية، والعكس صحيح، وهو عكس أو نقيض حملته الرسالة الثالثة التالية:

3- الرسالة الثالثة هي: إن الصراع داخل الصف الفلسطيني أخطر عليهم من مكايد وعدوان عدوهم المحتل لأرضهم.. نقرأ في هذه الرسالة: «إن ما يحدث في فلسطين صراع مروع بين الأشقاء لا يرضي الله ولا المؤمنين. إن قلوب المسلمين في كل مكان تتصدع وهي ترى الإخوة وقد انقسموا إلى فريقين يكيل كل منهما للآخر التهم ويتربص به الدوائر، وأصارحكم أيها الإخوة: أن العدو المتكبر المجرم لم يستطع عبر سنوات طويلة من العداوة المستمرة أن يلحق الأذى بالقضية الفلسطينية ما ألحقه الفلسطينيون أنفسهم بقضيتهم من أذى في شهور قليلة، والحق أقول لكم أيها الإخوة إنه لو أجمع العالم كله على إقامة دولة فلسطينية مستقلة، ولو حشد لها كل وسائل الدعم لما قامت هذه الدولة والبيت الفلسطيني منقسم على نفسه شيعا وطوائف (كل حزب بما لديهم فرحون).. وإنني باسم إخوانكم في مهبط الوحي، وباسم إخوانكم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أذكركم بإيمانكم ومواثيقكم المغلظة يوم اجتمعتم في البيت الحرام أمام الكعبة المشرفة. إنني أستحلفكم بالله رب البيت الحرام: أن تكونوا جديرين بجيرة المسجد الأقصى، وأن تكونوا حماة ربوع الإسراء، أستحلفكم بالله أن توحدوا الصف، وترأبوا الصدع، وأبشركم إن فعلتم ذلك بنصر من الله وفتح قريب وهو سبحانه القائل ووعده الحق: «إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم».

لا فض فوك أيها الملك الكبير: المعبر عن ضمائر ورؤى ألف وثلاثمائة مليون عربي ومسلم، تعبير الرائد الذي لا يكذب أهله.

لقد صدقت إذ قلت: إن الصراع المرير بين الفلسطينيين أخطر عليهم من كيد عدوهم. ولقد قالها عمر بن الخطاب من قبل: «إن خطاياكم أخوف عليكم من عدوكم».. ونحن شهود على أنك كثفت النصح للفلسطينيين في هذا السياق، ففي زيارتك للأردن عام 2007 قلت: «لقد سارت الأمور بعد اتفاق مكة على نحو واعد بعث على التفاؤل، لكن سرعان ما انقلب الحال بعد ثلاثة أشهر من التوقيع على الاتفاق.. ولا يمكن أن يستمر الحال على ما هو عليه لأن في ذلك خدمة لمن يغتصب الأرض الفلسطينية، وإضرارا فادحا بالقضية الفلسطينية وقد يقضي على الآمال في إنشاء الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف».

ولقد صدقت حين ذكرت القادة الفلسطينيين بالعهود التي تعاهدوا بها في البيت الحرام. فالوفاء بالعهود لوازم أخلاقية في كل مكان، وهي في كنف البيت الحرام أشد لزاما.. ثم إن الثقة الأخلاقية والسياسية تنتفي عمن ينقضون هذه العهود المغلظة.. وويل لقوم ينحدرون إلى هذا المستوى من الجنون وفقدان الثقة.

أيها الملك.. إنني أجدد البيعة لك لمواقفك الشريفة هذه التي ترفع رأس كل عربي ومسلم وإنسان.. أجدد البيعة ليس لأنها تقادمت.. كلا.. كلا. ولكن اهتداء بآية: «يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله...». وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، ولكن من باب تكميل الكامل وتجديده وتثبيته وزيادته.

ونشعر أن المقال لا يتم تمامه إلا بالجواب عن السؤال التالي وهو: لماذا ينفرد القادة السعوديون بهذه المواقف الحقة القوية الجريئة التي تجعل السعودية (الرقم الأهم) في مصائر المنطقة؟

والجواب يمثل في ثلاث:

أ- (نزاهة) الموقف السعودي وحياديته فهو لا ينحاز لطرف ما في القضية الفلسطينية، ولا يستغل القضية سياسيا في خدمة مصالحه الوطنية كما يفعل الكثيرون: من قبل ومن بعد!

ب- استقلال القرار وحريته وعقلانيته.. فاستقلال القرار يتميز دوما بالنظرة العادلة، والرؤية الموضوعية، والارتفاع الحر فوق كل ضغط ومجاملة.

ج- السجل السياسي والتاريخي الأبيض في خدمة القضية الفلسطينية.. نعم هو سجل كتب صفحاته الأولى الرائد المؤسس الملك عبد العزيز - رحمه الله - ولكنه سجل مفتوح دوما لصفحات جديدة من المجد الوطني والعربي والإسلامي والإنساني.