مؤشرات البعث الفلسطيني

TT

عام 2002، أصدر «البرنامج الإنمائي» التابع للأمم المتحدة تقريره الأول عن التنمية البشرية في العالم العربي، عرض بوضوح تفاصيل جوانب النقص على أصعدة الحرية وتمكين المرأة وخلق المعرفة، التي تعوق العالم العربي عن التقدم. وجاء التقرير مدعوما بإحصاءات متزنة، منها أن اليونان وحدها تترجم سنويا كتبا من الإنجليزية إلى اليونانية، خمسة أضعاف ما يترجمه العالم العربي بأسره من الإنجليزية إلى العربية، وأن إجمالي الناتج المحلي لإسبانيا يزيد على نظيره لجميع الدول العربية الـ22 مجتمعة، وأن 65 مليون من العرب البالغين أميين. وكانت الصورة العامة التي طرحها أكاديميون عرب تحلوا بالشجاعة من خلال هذا التقرير مثيرة للجدل.

صدر التقرير في أعقاب أحداث هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 بفترة قصيرة، وبدا الأمر وكأنه يطرح تشخيصا لجميع مظاهر سوء الحكم التي تعصف بالعالم العربي، وتفرز غضبا جما وشبابا عاطلا يسقط فريسة سهلة في أيدي المتطرفين. أما الأنباء السارة فتتمثل في أن «البرنامج الإنمائي» ومجموعة جديدة من العلماء العرب أصدروا الأسبوع الماضي تقريرا جديدا حول التنمية البشرية في العالم العربي. لكن الأنباء المؤسفة أن التقرير يكشف مزيدا من التردي في الأوضاع ـ في وقت لا تود الكثير من الحكومات العربية الإنصات إلى هذا الأمر.

نبع هذا التقرير الجديد عن رغبة في التوصل إلى السبب وراء صعوبة التغلب على المعوقات القائمة أمام التنمية البشرية داخل العالم العربي. وخلص قرابة الـ100 عالم عربي الذين شاركوا في وضع التقرير لعام 2009 إلى أن أعدادا مفرطة من المواطنين العرب اليوم يفتقرون إلى «الأمن الإنساني ـ مصطلح يشير إلى نمط المواد والأسس الأخلاقية التي تؤمن الحياة والمعيشة ومستوى مقبول من جودة الحياة بالنسبة لغالبية الأفراد». ويعتبر الشعور بالأمن الشخصي ـ اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ـ «شرطا أساسيا مسبقا للتنمية البشرية، وكان من شأن غيابه على نطاق واسع داخل الدول العربية إعاقة تقدمها». وأشار واضعو التقرير إلى مجموعة متنوعة من العوامل التي تقوض التنمية البشرية بالمنطقة العربية اليوم ـ بداية من التدهور البيئي ـ ومزيج سام من تزايد معدل التصحر ونقص المياه والانفجار السكاني. عام 1980، بلغ عدد سكان المنطقة العربية 150 مليون نسمة. عام 2007، ارتفع عدد السكان إلى 317 مليون نسمة، وبحلول عام 2015 من المتوقع أن يصل العدد إلى 395 مليون نسمة. ينتمي قرابة 60 في المائة من سكان المنطقة إلى ما دون سن الـ25، وسيحتاجون إلى 51 مليون فرصة عمل جديدة بحلول عام 2020.

من بين المصادر المستمرة الأخرى للشعور بافتقار الأمن الإنساني داخل الدول العربية معدلات البطالة المرتفعة، حيث توصل التقرير إلى أنه «على امتداد قرابة عقدين ونصف العقد بعد عام 1980، شهدت المنطقة بالكاد أي نمو اقتصادي». ورغم توافر العائدات النفطية (أو ربما بسببها)، هناك نقص حاد في الاستثمارات بمجال البحث العلمي والصناعات التنموية والمعرفية والابتكار. بدلا من ذلك، تهيمن الوظائف والاتصالات الحكومية. عام 2005، بلغ متوسط البطالة في العالم العربي 14.4 في المائة، مقارنة بـ6.3 في المائة بالنسبة لبقية أرجاء العالم. ويرجع جزء الكبير من السبب وراء هذا الوضع إلى مصدر ثالث للشعور بافتقار الأمن الإنساني: الحكومات العربية الاستبدادية وغير الممثلة للشعوب، التي «غالبا ما تتحد نقاط ضعفها لتحول الدولة إلى مصدر تهديد للأمن الإنساني، بدلا من العمل كجهة الدعم الرئيسة له». كان من الطبيعي أن يغمرني شعور باليأس لدى انتهائي من قراءة التقرير لولا زيارتي لرام الله، مقر الحكومة الفلسطينية في الضفة الغربية، حيث عثرت على بعض المؤشرات الباعثة على الأمل.

من المعروف أن الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني ينطوي على أهمية خاصة بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط بصورة واسعة، ففي إطار هذا الصراع، يجري اختبار جميع الأفكار الجيدة والسيئة أولا. في الوقت الراهن، يختبر رئيس الوزراء الفلسطيني، سلام فياض، الخبير الاقتصادي السابق لدى صندوق النقد الدولي، أكثر الأفكار إثارة على الإطلاق في تاريخ الحكومات العربية. من جانبي، أطلقت على هذه الفكرة «الفياضية».

تعتمد «الفياضية» على فكرة بسيطة ونادرة الوجود في الوقت ذاته، مفادها أن شرعية القائد العربي ينبغي أن تنطلق ليس من الشعارات أو التوجهات الممانعة أو المكانة الشخصية أو الخدمات الأمنية، وإنما من تحقيقه خدمات وإدارة تتميز بالشفافية وتخضع للمساءلة.

يعتبر فياض، وزير المالية السابق، الذي تقلد رئاسة الوزراء في أعقاب استيلاء «حماس» على السلطة في غزة في يونيو (حزيران) 2007، مختلفا عن أي من القيادات العربية الموجودة حاليا. يتميز فياض بكونه واحدا من الشخصيات الوطنية الفلسطينية المتحمسة، لكن إستراتيجيته برمتها تقوم على أنه: كلما نجحنا في بناء دولتنا على مؤسسات على مستوى رفيع من الجودة ـ فيما يتعلق بالأصعدة المالية والشرطية والخدمات الاجتماعية ـ اقتربنا من نيل حقنا في الاستقلال. في الواقع، أعتبر هذا التوجه تحديا للنهج الذي أرساه عرفات، الذي يركز على الحقوق الفلسطينية أولا، ثم مؤسسات الدولة لاحقا، حال الاهتمام بها من الأساس، وفي النهاية عدم إنجاز أي منهما. الملاحظ أن الأوضاع آخذة في التحسن بالفعل داخل الضفة الغربية، بفضل النهج «الفياضي» سالف الذكر وتحسن مستوى الأمن الفلسطيني ورفع إسرائيل نقاط التفتيش التابعة لها. تشير الإحصاءات إلى أنه طيلة عام 2008، تم تسجيل نحو 1.200 شركة جديدة هنا. خلال الشهور الست الأولى من العام الحالي، تم تسجيل ما يقرب من 900 شركة. طبقا للبيانات الصادرة عن صندوق النقد الدولي، من المتوقع أن يحقق اقتصاد الضفة الغربية نموا بمعدل 7 في المائة هذا العام.

من جهته، قال فياض، المعروف بنزاهته هنا، إن التوجه الذي يتبعه يقوم على «إخبار الناس من نحن وما هدفنا وماذا ننوي فعله، ثم تحقيقه بالفعل». في وقت أخفقت جميع الأيديولوجيات الكبرى في تقديم النتائج المرجوة إلى العرب، يؤكد فياض رغبته في بناء حكومة تقوم على «شرعية الإنجاز».

مما سبق يتضح أن أمرا جديدا تماما يجري هنا. وبالنظر إلى المكانة المحورية التي تتميز بها القضية الفلسطينية في أعين العرب، إذا ما نجح التوجه «الفياضي»، ربما سيشكل ذلك بداية توجه جديد في هذا الجزء من العالم ـ توجه سيقدم إسهاما كبيرا في جهود تحسين الأمن الإنساني العربي، يتمثل في حكومة تتسم بالكفاءة تخضع للمساءلة.

* خدمة «نيويورك تايمز»