عادة تكرار التاريخ نفسه فلسطينيا

TT

صادف افتتاح انعقاد المؤتمر العام لحركة فتح لقاء ضيق مع مجموعة من خبراء المنطقة المتعددي الجنسيات، لمناقشة فرص نجاح حل الدولتين، ومدى فاعلية دور الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي وجه قواته الدبلوماسية نحو المنطقة.

هناك إجماع على أن حماس عزلت نفسها فلسطينيا، بعد عزلتها عالميا، بمنعها العشرات في مناطق تسيطر عليها من حضور المؤتمر، مما يعطى الضوء الأخضر للرئيس محمود عباس (المنتخب شرعيا لرئاسة كيان يمثل نواة الدولة الفلسطينية، لكل الفصائل والمنظمات ولغير المنتمين لأي منظمة) لانتقاد الحركة الإسلامية المتطرفة، التي تعرقل مسيرة الفلسطينيين، وكأن التاريخ يعيد نفسه بعد عشرين عاما من عرقلة المنظمة المنشقة «فتح ـ المجلس الثوري» لاعتراف أميركا وحلفائها بشرعية منظمة التحرير.

كان أبو نضال (صبري البنا) انشق عن فتح في السبعينات بمجموعة إرهابية «فتح ـ المجلس الثوري» هاجمت السفارات العربية، واغتالت العديد من الزعماء الفلسطينيين. عمل البنا كقاتل مأجور للديكتاتوريات العربية، واضعا أولوية اغتيال الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (وفشلت عدة محاولات، أهمها في 1974) قبل تحرير فلسطين، بينما لم تقم مجموعته بأعمال ذات تأثير لتحرير بلاده.

في عام 1982 أطلقت خلية للبنا النار على السفير الإسرائيلي في لندن شلومو ارجوف، على باب فندق الدورشيستر، لحساب صدام حسين، في خطة لاستفزاز إسرائيل للرد عسكريا، ليقنع الإيرانيين بهدنة في الحرب التي بدأها ضدهم قبل عامين، «للتفرغ لمقاومة إسرائيل». فشلت خطة (أبو نضال ـ صدام)، واجتاح الإسرائيليون جنوب لبنان حتى بيروت، فكانت مذابح صبرا وشتيلا وخروج منظمة التحرير إلى شتات المنفى.

في ربيع 1989، دعا أبو نضال 22 من القيادات الفلسطينية من المتعاطفين والمنتقدين إلى مقره «لبحث استراتيجية لمواجهة التطورات السياسية»، بعد إعلان الرئيس عرفات الدولة الفلسطينية في المنفى في جينيف «نوفمبر 1988». وبالطريقة التي صفى بها صدام منافسيه في البعث عام 1979، اغتال أبو نضال ضيوفه، في الوقت الذي نفذ رجاله جرائم وحشية ضد أتباعهم في لبنان (كشفت التفاصيل في مقالي في صحيفة «الإندبندنت» اللندنية 1989).

جاءت خطة البنا بنتائج عكسية، إذ قوي مركز عرفات دوليا، وزاد عدد العواصم المعترفة بدولته، وبدأت أميركا (ممثلها السفير دينيس روس في تونس) مفاوضات مباشرة مع عرفات، ثم الاعتراف المتبادل مع إسرائيل، واتفاقية أوسلو (1993)، ونقل قيادته من تونس إلى رام الله؛ بينما قاد أبو نضال مسيرة مجلسه الثوري إلى «مزبلة التاريخ»؛ حتى قتل في بغداد عام 2002 بأوامر صدام على أغلب الظن.

لجوء حماس للإرهاب ضد فتح، وموظفي السلطة الفلسطينية، وضد من ينتقد سياستهم من أهالي غزة، يشبه كثيرا تطرف أبو نضال، الذي لا يزال يحير المؤرخين لإضراره الشديد بالقضية الفلسطينية.

وإذا أخذنا في الاعتبار أنها المرة الأولى في التاريخ التي ينعقد فيها المؤتمر العام لفتح على أرض فلسطينية، وهي مناسبة تاريخية، فمن الواجب إذن على جميع الفلسطينيين بلا استثناء، وعلى اختلاف انتماءاتهم الآيديولوجية، دعم السلطة الشرعية للرئيس عباس، وحتى لا تضيع هباء تضحيات الجيل الأول من الزعماء الفلسطينيين من مؤسسي الحركة (كعرفات، والمغفور لهم جويد الغصين، وخليل الوزير، وصلاح خلف، ويوسف النجار، على سبيل المثال لا الحصر)، لأنها أثمرت نبتة السلطة الشرعية في أرض فلسطينية التي يجب أن تنمو إلى الدولة الكاملة بجهود من يحملون رايتها الآن بزعامة أبو مازن.

موقف الرئيس عباس اليوم يشبه موقف سابقه عام 1989، والعالم كله لا يعترف بسلطته الشرعية فحسب، بل يدعم حملة الرئيس الأميركي باراك أوباما للتعجيل بوضع حل الدولتين موضع التطبيق؛ وهي فرصة تاريخية قد تكون الأخيرة والأهم في حياة الفلسطينيين منذ إضاعة قياداتهم أثمن فرصتين في التاريخ: رفض قرار التقسيم عام 1947، ورفض دعوة الرئيس الراحل أنور السادات، الذي ضمن مشاركة وفد فلسطيني مستقل بعلم فلسطين في مفاوضات «مينا هاوس» في ديسمبر 1977، (ولم تكن في الضفة الغربية أي مستوطنات تذكر وقتها).

فالرئيس أوباما هو أول رئيس أميركي يعلن التزامه بحل الدولتين وبالتوازن في الضغوط والحوافز للجانبين، ليس فقط في ولايته الأولى فحسب، بل في اليوم الأول من دخوله البيت الأبيض بالجهود العملية المستمرة وليس بالكلام فقط.

ومن الحماقة أن يضيع الرئيس عباس وقادة فتح الفرصة؛ فعليهم البقاء على متن قطار السلام الذي يقوده أوباما، دون إعطاء أي فرصة لإعطاب المحرك أو التوقف أطول من اللازم في محطات الجيران بحساباتهم الخاصة، حتى ولو تطلب الأمر إنزال من يرفض وضع أحزمة المقاعد (بدلا من الأحزمة الناسفة) للتمكن من الانطلاق بسرعة كبيرة، من القطار.

فالرئيس أوباما لديه ما يكفيه من التحديات في منطقة الشرق الأوسط التي يراها كرقعة الشطرنج ترتبط فوقها الأحجار؛ فتحريك كل قطعة يؤثر على سير اللعبة كلها، دون أن تضيف الصراعات (الفلسطينية ـ الفلسطينية) إليها، وتسبب له الصداع فيدير ظهره للمشكلة كما فعل من سبقوه.

فتشدد إيران وسعيها لتطوير السلاح النووي تحد لأوباما يرتبط بالقضية الفلسطينية، حيث تحرك خيوط حزب الله وحماس من أجل تنازل من الغرب (ولذا فإلقاء حماس والمتمردين على قيادة عباس من نافذة قطار السلام قد يكون فكرة طيبة).

ومن الحكمة منع من تدعهم قوى خارجية كإيران وشركائها من وضع عقبات على طريق القطار؛ فضغوط مجموعات سياسية (لوبيات) داخل الكونغرس في حالة عمليات إرهابية أو إطلاق الصواريخ من غزة، قد تنجح في تنشيط خصوم أوباما (لأسباب داخلية) في الكونغرس لتعطيل اندفاع قطاره الدبلوماسي للتسوية، أو للضغط على حكومة بنيامين نتنياهو.

وهذا أيضا يرتبط بتحد آخر يواجه مشروع أوباما لتسوية بحل الدولتين، وهو شكوك الرأي العام الإسرائيلي في نواياه. فغالبية الشعب الإسرائيلي تريد السلام، وهناك غالبية بسيطة تتفق معه في أن بناء المستوطنات معرقل للسلام، وبالتالي ضار بمصالح الدولة اليهودية على المدى الطويل؛ لكن إصراره على وقف البناء في المستوطنات القائمة حاليا أدى لتأرجح هذه الأغلبية إلى ناحية الرفض لخطط أوباما الذي تراه منحازا ضد إسرائيل. وهذه الأغلبية ستزداد إذا تصاعدت أعمال عنف من جانب حماس والمتطرفين.

هذا السيناريو يتطلب إدانة الأغلبية الفلسطينية بقيادة سلطة عباس الوطنية لأعمال العنف والتحرك ضد مرتكبيها، من أجل مساعدة الرئيس أوباما في مهمته.

المهم أن يعي الفلسطينيون أنه لا يوجد نظام عربي، مهما علا صوته بشعارات قومجية، أو نظام إسلامي، مهما علا تكبيره بنصرة الإسلام، سيكون أكثر حرصا على مصلحة الفلسطينيين من رئيسهم الشرعي محمود عباس.