العودة إلى الوطن

TT

لم يكن «السير ستفانوس» يأتي إلى الصالون دائماً لكي يقص شعره. بل كان غالباً يأتي، لكي يقص على من حضر، ذكرياته في كاليفورنيا. لم يكن في تلك «الذكريات» نساء ومغامرات. أو أموال وملايين. بل الغريب فيها انها كانت محصورة في الاسمنت: شوارع، أو جادات، أو عمارات. وكانت العمارة نفسها ترتفع أو تنخفض، وفقاً لعلاقة السير ستفانوس بالارقام ذلك النهار. فهذه المرة يروي لك ان البناية التي كان يسكن فيها ـ دائماً في الطابق الاخير ـ مؤلفة من 350 دوراً. وفي المرة التالية يروي أن الكهرباء قد انقطعت واضطر الى نزول الدرج مشياً واستغرق ذلك يوماً ونصف يوم لأن المبنى من 150 دوراً. وقد طلع النهار على السير ستفانوس، وعلى جيرانه، وهم في منتصف المبنى. ولم يطل رجال الاطفاء الاوغاد الا بعد الظهر. ولكن بعد ماذا؟ بعد أن كان المهندسون قد أصلحوا محرك الكهرباء الذي يزن ثلاثين طناً، عشرين في المرة التالية، عشرة بعدها. ثم ينسى السير ستفانوس ان المحرك قد أصلح لكن لا يفوته تأخر الاطفائيين الاوغاد.

وكان السير ستفانوس يقطن في «سانست بولفار»، جوهرة هوليوود، في مكان يليق بالعاملين في السينما أمثاله. وكان دائماً يعطى دور الفتى الاول. ولكن جميع الافلام التي مثلها احترقت قبل عودته. وكان يقول أحياناً أن طول «سانست بولفار» هو المسافة بين بيروت وصيدا. وأحياناً المسافة بين بيروت والارز. وعندما يقول بيروت الارز يسأله ظرفاء الصالون الذين اعتادوا حكاياته: «فيه طلعات كثير عَ البولفار». ويكون السير ستفانوس قد نسي أين كان وأين أصبح وعما يحكي فيجيب على الفور «كله طلعات. يا ويلي عَ الطلعات».

الغريب في السير ستفانوس انه كان رجلا طبيعياً عاديا عاقلا منطقيا، في أي موضوع آخر غير كاليفورنيا. كان يتحدث في السياسة وفي الفن وحتى في الادب والشعر، بذكاء وطلاقة ولماحة. وكان دقيقاً في حفظ الشعر لا يلحن في ايقاع أو حركة، بعكس الفوارق في ارتفاع مبانيه. وكان يعرف جغرافية لبنان وقرأه بالكيلومتر بعكس سانست بولفار و«طلعاته». ولم يحاول أحد منا فهم ذلك السر. فالمسألة لا تتعدى الزيارة الدورية للحلاق.

وعندما أتذكر أتذكر كم كان الحلاق صبوراً وواسع الصدر. لا يقاطع السير ستفانوس ولا يصحح له شيئاً، ويتركه ينزل الدرج على هواه في انتظار وصول الاطفائيين الاوغاد. وكلما لاحظ أن السير ستفانوس تمادى في الذكريات، يسأله ان كان قرأ صحيفة الصباح، فيعود السيد اسطفان الى الوطن.

الى اللقاء.