أيام فاتت

TT

لم يسهم عاملان في صياغة نفسية العراقيين وتاريخهم كما صاغهما الفيضان والتمر. يأتي الفيضان في الربيع فيصبح حديث المجالس، كلما صعد مستوى النهر وكلما نزل؟ يخرق السدود والحدود في الأخير ويهلك الزرع والضرع ويعلم العراقيين على اللطم والنحيب. ويأتي التمر في الصيف، شهر آب (أغسطس) الذي يحرق المسمار في الباب، يقلل الأعناب ويكثر الأرطاب. ترتفع الحرارة إلى الخمسين سنتغراد فتجنن القوم فيثورون على الحكومة ويضربون زوجاتهم وأولادهم ويقولون: يبعث الله الحر لينضج التمر ويجدد الثورة.

هكذا جرى حديث المجالس عام 1938، فقالوا إن النهر لم يرتفع قط لمثل هذا المستوى من قبل. وكله غضب من الله على قيام بعض المسلمين ببيع العرق. آووا لبيوتهم يبتهلون للباري عز وجل أن يسلم ديارهم وأولادهم ودنانيرهم. ولكن الله عز وجل لم يستجب لدعائهم وكسر الماء سدة ناظم باشا من ناحية الوزيرية وراح يتدفق في الشوارع. المعتاد في مثل هذه الطوارئ أن تخف الشرطة لتجنيد الناس فيما يسمى بعمل السخرة لمهمات دعم السدود. وهكذا رن التلفون في مكتب معاون شرطة السراي عدنان محيي الدين لتعبئة الناس للسخرة فورا لوقف المياه. أسقط في يده، فقد كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل وآوى الناس لبيوتهم نائمين وخلت الشوارع من المارة. من أين يأتي بالسخرة؟ بيد أن الله تعالى أوحى له بالحل. هناك محلة واحدة ما زالت تعج بالناس وبالنشاط على قدم وساق. محلة الكلجية، المبغى العام في بغداد. اقتاد المعاون زمرة من الشرطة وهرع إلى أزقة المبغى التاريخي الذي تعود أيامه إلى أيام هولاكو. جمع كل من وجده هناك من العاهرات وزبائنهن. حشرهم في سيارات الشرطة وهرع بهم إلى محل الثغرة. وهناك انكب الرجال بحفر الأرض وملء الأكياس بالتراب وحملت النسوة الأكياس على ظهورهن لردم الثغرة وإيقاف التدفقات. واصلن الشيل والحط بجد ونشاط. وعندما دوت منائر المدينة بأذان الفجر توفقن في سد الثغرة وإنقاذ عاصمة الخلافة من الغرق المحتم. ولولاهن لاجتاحت مياه الفيضان كل تلك المساجد الخالدة، ضريح الكاظمين وأبي حنيفة والكيلاني والشيخ معروف وغيرهم..

عادت بهم سيارات الشرطة إلى الكلجية، كل إلى عمله. وفي اليوم التالي بعث أمين العاصمة برسالة شكر وتقدير لكل العاملات والعاملين هناك على جهودهم المشكورة.

بيد أن الدكتور محمد فاضل الجمالي، واصل حملته لاقتلاع هذه المحلة من العاصمة العراقية كوصمة في جبين مدينة المنصور وهارون الرشيد. وما أن تسلم رئاسة الحكومة حتى أمر الجيش عام 1956 بطرد النساء وهدم بيوتهن وإزالة كل أثر من آثار المحلة.

ويظهر أن ضباط الجيش لم يرتاحوا لفعلته هذه، فبعد سنتين من إزالة الكلجية من بغداد قاموا بثورة 14 تموز واعتقلوه وساقوه لمحكمة الشعب أمام المهداوي بتهمة الخيانة العظمى والعمالة للاستعمار.

وكانت أيام يا سادتي.. وفاتت.

www.kishtainiat.blogspot.com