انتصار الروح البشرية

TT

في مذكرات لطبيب بريطاني اسمه «هاريسون»، أرسلته بعثة تنصيرية عن طريق «بومبي» للعمل في عمان، وذلك بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وأول ما وصل إلى «مسقط» التي لا يزيد عدد سكانها على حد قوله عن «15» ألف نسمة، ومنها انطلق إلى مناطق أخرى.

ويرافق ذلك الطبيب ستة أشخاص وعدة حقائب تحوي الأدوية والمعدات الطبية.

ويقول: إن المشكلة التي واجهتنا هي قلة الموارد التي لا بد أن نتحصل عليها، إلى جانب فقر الأهالي المدقع، وكثرة انتشار الأمراض، ففي «دبي» مثلا التي لا يزيد عدد سكانها عن «30» ألف نسمة، لا يوجد أي مستشفى، وكان إذا أصيب أحد بالجدري يرسلونه إلى خارج المدينة في مكان منعزل وحده، فإما أن يشفى ويعود وإما أن يموت هناك، وكان العميان يقدرون بعشرات الآلاف في عمان وسواحل الإمارات من كثرة الأمراض، إلى درجة أن أحد رفاقي قال لي: إنني في عجب لماذا يريد هؤلاء الناس أن يعيشوا في هكذا مكان؟!

قلت له: إن حياة البدو مليئة بالحرية، ورغم الحالة الاقتصادية السيئة فهم لا يهتمون بذلك ويعيشون في سعادة، وهذا بحد ذاته انتصار للروح البشرية.

وقد أدهشني أحد البدو عندما أتاني يوما يطلب علاجا لعين جمله، فقلت له: إن عينك الرمداء هي التي تستحق العلاج، ووافقني وسكبت بعض الدواء في عينه، وأعطيته البقية ليداوم عليها عدة أيام، وتفاجأت به بعد أن خرج من عندي، أنه ذهب وسكب كل بقية الدواء في عين جمله مؤثره على نفسه.

وهؤلاء الناس ينقسمون قسمين؛ الأول اعتماد حياته كلها على النخل، ومثلما يقال عن الإيطالي إنه حيثما ذهب فهو يزرع كرمة العنب، فالعربي هو حيثما يعيش فالنخلة تظلل بيته.

والقسم الثاني في السواحل يعيش على صيد الأسماك، وتفاجأت بصياد يجر سمكة قرش عملاقة ولا أدري كيف نجا منها؟!، وسألته: هل تأكلونها؟!، فقال: نعم إننا نأكلها مثلما تأكلنا، المهم من يأكل الآخر أولا؟!

ويمضي الطبيب قائلا: واستطعنا أن ندبر مصاريفنا، حيث إننا كنا نتسامح مع الفقراء، ولكن إذا أتى أحد الأغنياء يطلب العلاج فنحن نفرض عليه قبل أن نعالجه أن يدفع أجرة الأربعة أشخاص الذين سبقوه، والأربعة الذين سوف يأتون بعده.. وكل مريض يحضر معه فراشه وينام على الأرض، ويعتني به أهله لإطعامه.

وصادف أن ذهبت إلى أحد المشايخ لأخلع له ضرسه، فسألني: هل تستطيع حقا خلع الأسنان؟!، فأكدت له ذلك، فما كان منه إلا أن ينادي على أحد خدمه قائلا: جرب أولا أن تخلع ضرس هذا الخادم لتثبت لي ذلك ولكي أطمئن، فرفضت، وتفاجأت بالخادم «الأرعن» يفتح فمه على أقصاه أمام وجهي طالبا مني أن أخلع كل أسنانه فداء لسيده، ومن حسن الحظ أنني وجدت أحد أضراسه مسوّسا فخلعته له، عندها اطمأن الشيخ وفتح لي فمه.

وقررنا في إحدى المراحل أن نصعد إلى الجبل الأخضر، لعلاج أحد المشايخ في منطقة «سفالة»، ووجدنا محطة في سفح الجبل ممتلئة بمجموعات من الحمير، كل مجموعة اختصاصها منطقة معينة، وركبنا فوق مجموعتنا التي شقت طريقها صعودا دون «أي دليل» إلى أن أوصلتنا إلى هناك عند منتصف الليل، ولا أظن أن هناك حيوانات ذكية مرت علي في حياتي أذكى من تلك الحمير.

الكلام يطول مع ذكريات ذلك الطبيب، ولكنه في النهاية قال: إن الحضارة قد بدأت تغزو تلك البلاد، فأجهزة الراديو على سبيل المثال تقدر اليوم في عمان وسائر المناطق بخمسين جهازا، وهذا عدد ليس بالبسيط. وانتهت الحملة الطبية «التنصيرية» بعد عشرة أعوام دون أن يتنصر عربي واحد، غير أن الآلاف شُفوا من الأمراض أو تحصنوا منها.

[email protected]