لبنان.. الحلقة الأضعف والأكثر «ضجيجاً»

TT

ومِن العداوة ما يصيبك نفعُهُ

ومِن الصداقة ما يضرُّ ويؤلمُ

(المتنبي)

المنعطف السياسي الأحدث الذي شهده لبنان في المؤتمر الاستثنائي للحزب التقدمي الاشتراكي، حيث أعلن الزعيم وليد جنبلاط عمليا نهاية علاقته بتكتل «14 آذار» ما زالت تردداته تتفاعل، وهذا أمر أكثر من بديهي.

فلا الحدث عادي، ولا اللاعب شخصية ثانوية.. مع أن كثيرين تصوروا خلال السنوات الأخيرة أنه كذلك. وقد يكون لـ«إسقاطه» من الحساب كشخصية محورية دور عزز لديه مبررات الانقلاب الكبير.

يوم 20 تموز (يوليو) كتبت في هذه الزاوية، بالذات، تحت عنوان «جمهورية (اللويا جيرغا) اللبنانية.. ترحب بكم» متسائلا عن معنى الانتخابات النيابية وجدواها إذا كانت الأكثرية ممنوعة من ممارسة الحكم، والأقلية رافضة الاكتفاء بدور المعارضة.

وذهبت أبعد من ذلك، مشككا بالتفاؤل بقيام حكومة قادرة على الحكم في غياب التفاهم على أسس يعتد بها. وفي ظل واقع سياسي محلي مأزوم يقيد الجميع، وواقع إقليمي قابل للانفجار في أي لحظة.

ما لم أقله صراحة إن التفويض الأكثري الذي حصل عليه الرئيس المكلف سعد الحريري كان «تفويضا ملغوما» منذ البداية. فالكل كان مع حتمية تولي رئاسة الحكومة الشخصية المسلمة السنية الأقوى نفوذا وتمثيلا، وبالتالي، الزعيم السني الأبرز في «14 آذار»، إذا ما عرفنا أن مجموع النواب السنة في تكتل «8 آذار» لا يزيد على ثلاثة نواب فقط (من أصل 27 نائبا)، وهو للمفارقة، نفس عدد النواب الشيعة في تكتل «14 آذار».. وأيضا من أصل 27 نائبا. وبناء عليه، إذا كانت الأكثرية أيدت انتخاب الرئيس نبيه بري (مرشح الأقلية) لرئاسة مجلس النواب المحجوزة للشيعة، غدا محسوما تأييد الحريري لمنصب رئيس الحكومة المحجوز للسنة.

بيد أن التفاهمات وصلت عند هذا الحد وتوقفت عنده، بانتظار معطيات إقليمية ودولية تساهم في حلحلة العقد. فمهمة الرئيس المكلف تبدت صعوباتها ـ لأسابيع ـ حتى قبل تفجير وليد جنبلاط «القنبلة» التي أدت، حتى الآن، إلى قلب الطاولة وانهيار الثقة، وأعادت طرح قضايا على بساط البحث ظن كثيرون أنها باتت خارج التداول منذ عقود.

أساسا، كان غريبا بعض الشيء قبول الرئيس الحريري التكليف في غياب أي ضمانات «حقيقية» لتسهيل مهمته. كان غريبا المجازفة بقبول «التجربة» في ظل واقع غير مريح على الأرض.

فـ«حزب الله» ليس في وارد التخلي عن سلاحه. ونهج الحكم الجديد في إسرائيل لا يمكن أن يشجع أي قوة إقليمية على التفاؤل بالتقدم نحو سلام قابل للحياة. والضعف العربي العام، المكسو بـ«لياقات» تحول دون أي مصارحة، عاجز تماما عن تأسيس أرضية صالحة للمناورة. ووضع إيران، التي انكشف هزال نظامها السياسي ومدى التصاقه بالمؤسسة الأمنية، ما عاد بالمستطاع تقدير تفاعلاته، وهذا، من دون التطرق إلى مصير ملفها النووي وتمددها الإقليمي. أما المقاربات الأميركية والأوروبية الغربية لأزمات الشرق الأوسط.. فتبدو في أفضل الحالات مرتبكة، وفي أسوأها منافقة.. وهي في الحالتين لا تنم عن أي نية من أي نوع بوجود أي شكل من أشكال الحسم.

إزاء هذه المعطيات المحبطة (بكسر الباء)، يبقى لبنان أحد أضعف حلقات السلسلة الإقليمية. وفيه التجسيد شبه الكامل لتناقضات المنطقة ومساوماتها، وهواجسها ومشاريع فتنها.

هل كان المبشِّرون بانفراج للأزمة السياسية حقا مقتنعين بأن الحكومة اللبنانية العتيدة يمكن أن تبصر النور بسرعة؟ أم أن ثمة تطورات سلبية فاجأتهم كما فاجأت غيرهم؟

وهل كان كل الذين سموا سعد الحريري خلال المشاورات حقا مع توليه رئاسة الحكومة؟ أم أن هناك من كان يريد استدراجه.. فإحراجه، تمهيدا لإخراجه؟

ثم، وهنا سؤال أساسي يجب طرحه.. هل كان للأكثرية أي مرشح احتياطي متفق عليه، في حال قرر الحريري، لأي سبب من الأسباب، التخلي عن محاولة تشكيل الحكومة؟

سأبدأ بالإجابة على السؤال الأخير لأقول: لا.. لم يكن للأكثرية أي مرشح احتياطي بديل. أما السبب فهو أن «14 آذار»، كـ«8 آذار»، تكتل ظرفي لأطراف لا تجمع بينها أي استراتيجية أو رؤية موحدة خارج إطار «عدوّ عدوّي.. صديقي»، والمواقف الساخطة على الممارسات التي عانى منها اللبنانيون إبّان «حقبة الهيمنة السورية».

واليوم عندما تضج وسائل الإعلام و«التوجيه» عند «8 آذار» بمدح وليد جنبلاط، وبالشماتة المكشوفة والمقنّعة بخصومهم بعد «قنبلة» جنبلاط وشظاياها، يجوز لنا استعراض القواسم «المشتركة» التي تجمع «8 آذار» لتبين عبثية المشهد المأساوي.

لا شك، أن «إخراج» جنبلاط عملية خروجه من «14 آذار» كان في غاية السوء. والأكيد أن على رأس ضحايا هذا «الإخراج» السيئ قوى الاعتدال والتقدم والتسامح في «14 آذار»، وبالأخص المسيحية منها. في حين أن الذين يرميهم جنبلاط بتهمة «اليمين المسيحي» سيستفيدون كثيرا من ابتعاده عنهم في شارعهم الطائفي والسياسي، وبالأخص، أنهم أمام تحريض العونيين ومزايداتهم الطائفية.. دفعوا ثمنا باهظا لتحالفهم معه.

ولكن في المقابل، مَن يعرف وليد جنبلاط، ويعيش هواجس بيئته السياسية والطائفية، يفهم قلقه على مصير الأقليات في لبنان، بدءا بالأقلية التي ينتمي إليها.. أي الدروز. فمن الطبيعي أن يخشى على مصير طائفته. ومن الطبيعي أيضا أن يحاول، ولو بصورة تمويهية، استنهاض نضالات «يسار» تلاشى و«عروبة» نسيت أنها موجودة.

لكنه، على الأرجح، ليس قلقا فقط على مصير الدروز كأقلية إسلامية مذهبية يمكن أن تدفع ثمن صراع أصوليتين إسلاميتين مسلحتين.. وفق «السيناريو العراقي». إنه قلِقٌ أيضا، على المسيحيين. ولعله أكثر قلقا من ميشال عون من مغبّة زجّ الأقلية المسيحية في أتون الصراع السني ـ الشيعي.. الذي يُخشى ألا يكون قد انتهى فصولا في المنطقة بعد.

لقد تصدى جنبلاط أخيرا لمنتقدي قيادة حزب الطاشناق الأرمني في مناوراتها الانتخابية، مع أن الطاشناق «يمينيون»، وكانوا يخوضون الانتخابات في المعسكر الآخر. وجاء دفاعه عن قيادة الطاشناق ليس لانسجامه الفكري معها، بل لأنه يفهم تماما خوفها من أن تملي الطوائف الكبرى إرادتها السياسية على الأقلية الأرمنية.. وتصادر قرارها.

إنه يخشى حقا، رغم أن كثيرين من المسيحيين يرفضون الإقرار بأنهم أصبحوا أقلية في لبنان، أن يلحق مسيحيو لبنان بمسيحيي فلسطين ومسيحيي العراق خلال فترة زمنية غير بعيدة. ومصدر هذا القلق احتمالات الاستقطاب الأصولي، والصفقات الإقليمية في ظل التواطؤ الدولي.