الرجل الذي شنق العزيز هنري

TT

كان وصول هنري كسينجر إلى وزارة الخارجية الأميركية أهم مفترق في دبلوماسية واشنطن منذ جورج مارشال الذي بث روح المساعدة وإعادة البناء وتدعيم ركائز السلم واعتماد قوة الحوار، حتى مع ستالين، أو خصوصا مع ستالين. هنري كيسنجر الألماني اليهودي كان في الثامنة عشرة عندما صار مواطنا أميركيا. جاء ومعه ذكريات الهولوكوست، وجاء إلى أميركا وفي ذهنه أن هذا هو البلد الذي هزم هتلر واليابان ودول المحور بالقنبلة الذرية.

في الخارجية الأميركية طرد كيسنجر جميع المسلمين، خصوصا العروبيين. ورفع الدمار في فيتنام وكمبوديا إلى مستوى الذروة، ودشن في الدبلوماسية الأميركية قاعدة الحرم أو التحريم، فالحوار مع الفلسطينيين ليس ممنوعا، بل هو محرم. وليس خطأ، بل جريمة. وعندما حاول جيمي كارتر خرق جدار التحريم تحركت مؤسسة التحريم في شراسة لا تنسى. وأرغم كارتر على طرد سفيره في الأمم المتحدة لأن الرجل التقى في منزل السفير عبد الله بشارة مندوب منظمة التحرير زهدي الطرزي.

تعاملت أميركا مع لقاء بين رجلين بسيطين، أو غاية في البساطة، في منزل دبلوماسي لامع، وكأنه زلزال أصاب سلم العالم.

هل شاهدت جنابك، الأسبوع الماضي، صورة بيل كلنتون، القامة السياسية التاريخية، جالسا على كرسي صغير بلا مسندين، إلى جانب كيم جونغ ايل؟ هل قرأت ما هو مكتوب تحت الصورة بالحبر السري: باراك أوباما يعلق مشنقة هنري كيسنجر. أو بالأحرى: جثة كيسنجر تتدلى من شجرة أوباما.

لا حرم ولا تحريم في دنيا الدبلوماسية. لقد قامت من أجل جعل الحوار محل العداء والحروب في عالم منقبض مليء بالكره، حافل بالكوارث، أسهل الحلول فيه هي الحروب وبسط الموت ونشر الدماء. هل تتصور ماذا كان شعور بيل كلنتون وهو يهبط في مطار بيونغ يانغ، أو بماذا كان يفكر وهو يصغي إلى كيم جونغ ايل؟ لكن صناعة التاريخ لا تعرف المشاعر والانفعالات الشخصية. وسذج السياسة وحدهم يرفضون بالمطلق فكرة الحوار، مثل جيم بولتون وصفّه من المحافظين الجدد. تلك هي السياسة منذ أيام الأحنف بن قيس، الذي نقل عنه زميلنا رضوان السيد القول الشهير: تجرع الغصص وانتهاز الفرص.

وأما المتنبي فوجد في الاضطرار نكد الدنيا! ولا تعني السياسة طبعا التنازل عن القيم وإلغاء المقاييس الأخلاقية، كما فعل هنري كيسنجر، الأب الروحي «للمحافظين الجدد». لكنها أيضا لا تعني زرع الأرض بالجدران. برلين مثالا، والضفة مثالا آخر.