الصحافي الذي حاصرته حرائق السياسة

TT

دفعتُ شفيق الحوت ومسدساه

على جانبيه ليصعد سلّم النجاة من

الهجوم السوري لكن «أبا الهادر»

خانته شجاعته في لحظة التجربة

وليد جنبلاط يغيظ الأحياء والأموات. إن شفيق الحوت في ذروة الصخب المدوِّية الذي فجرته قنبلة جنبلاط السياسية ضد تيار 14 آذار في لبنان. لو أن الإنسان يتحكم بساعة رحيله، لاختار الحوت موعدًا آخر مع الموت، إذا كان جنبلاط شاغل الناس فهذا الصحافي الكبير عاش مشغولاً بنفسه. كأن يريد أن يحتل الدنيا في حياته ومماته.

كان الرثاء تقريظًا ومجاملة. الصحافة العربية لم تتعوّد، بعد، كيف ترفق الرثاء بتقييم لسيرة الراحلين، لكي يعرفهم الرأي العام والتاريخ على حقيقتهم، بلا «رتوش». ها أنا أقدم تقييمًا لشفيق الحوت كصحافي وكسياسي، من خلال متابعتي له، ومعرفتي به كصحافي تقاطعت حياتي الصحافية مع حياته مدة تزيد عن ثلاث سنوات.

توفرت للحوت موهبتان من ثلاث ضرورية، ليبلغ الصحافي المحترف القمة: الموهبة. ثم القدرة على إقامة علاقات اجتماعية واسعة. أما الثقافة فقد وفرت له ما يكفي للخطابة الإثارية، ولإنتاج أدب إنشائي جُلُّهُ محصور بخدمة القضية الفلسطينية.

لمع الحوت في «الحوادث». كان صاحبها سليم اللوزي يعرف كيف يكتشف المواهب الجديدة. لكن لم يكن يعرف كيف يكسبها ويحافظ عليها. الموهبة الصحافية جعلت الحوت ندَّا للوزي في تقنية الحرفة. أعني القدرة على ابتكار أبواب وزوايا جديدة، وعناوين جذابة، والتعليقات الجادة أو الساخرة. بهذه التقنية المصحوبة بجرأة اللوزي أصبحت «الحوادث» مجلة العرب السياسية الأولى في الستينات.

ترك الحوت عملة في «الحوادث» نتيجة قسوة المعاملة التي لقيها من اللوزي. ثم لم يجد فرصة للعمل في صحافة لبنانية لا ترحب بفلسطينيته وعروبته الناصرية. ذهب إلى الكويت مدرسا. الغريب أنه لم يعمل فيها صحافيًا!

عاد الحوت إلى بيروت ليعزز لبنانيته، بإظهار الحرص على «قرابته» لأسرة الحوت البيروتية، ثم بزواجه المُوَفَّق من ابنة عجاج نُوَيْهِضْ الكاتب والمؤرخ الدرزي اللبناني. عرفتُ عجاج نويهض في دمشق. ربما كان انشغاله العميق بالهمِّ الفلسطيني مساعدًا لاقتران شاب فلسطيني بفتاه درزية مثقفة، كان أبوها قوميًا عربيًا من الرَّعيل الأول.

مع صعود النفوذ الفلسطيني في لبنان، والتورّط الكارثي لعرفات والمنظمات الفلسطينية في اللعبة السياسية اللبنانية، عاد الحوت فاكتشف هويته الفلسطينية، متخذًا لقبًا حَرَكيًا (أبو الهادر) مناسبًا للجعجعة أو (البَهْوَرَة)، كما يقول اللبنانيون والسوريون. ثم أضاف أبو الهادر إلى اللقب مسدسي كاوبوي يتدليان من خاصرتيه فوق سروال الجينز.

كان عرفات يعرف كيف ينتقي رجاله، وأين يزرعهم. كان يختارهم من دون أن تكون لديهم قاعدة شعبية أو تنظيم. كان هيِّنًا عليه السيطرة عليهم واستخدامهم. كان الحوت من أولئك الذين تنطبق عليهم هذه المواصفات. ثم تجلَّت عبقرية عرفات في اختيار صحيفة «المحرر» كبرى صحف السنّة اللبنانية، موقعًا «لِزَلَمَتِهِ» الحوت، ليؤدي واجبه في خدمة زعيمه والقضية الفلسطينية.

أدى شفيق الحوت الدور الإعلامي المطلوب منه. غَدَت الصحيفة منبرًا للتحريض الفلسطيني والصراخ الطائفي اللذين كانا نذيرًا بنشوب الحرب اللبنانية (1975). لم يكن الحوت مهتمًا بتقنية العمل التحريري. في انقطاعه عن العمل الصحافي نحو 15 سنة، فهو نفسه لم يطوِّر تقنيته التحريرية.

كنت في هذه الأثناء محررًا للشؤون العربية في «المحرر». أشهد أن الحوت كان أداة إعلامية ناجحة: العناوين والتعليقات إثارية تحريضية. الكاريكاتير الساخر للرسام كريان، والفكرة اللاذعة للحوت. الزاوية التي كان يوقعها باسم «ابن البلد» كانت أنجح زاوية ساخرة في الصحافة اللبنانية. ولم تكن تتجاوز عشرة سطور.

كصحافي، أنا مع صحافة «التشويق». لكني ضد صحافة الإثارة و«التهويش». كنت وما أزال أعتبر أن هناك فارقًا كبيرًا بين الخط الوطني والخط الغوغائي أو الطائفي. لهذه الأسباب، هَمَمْتُ بالانصراف. لكن الصداقة التي ربطتني بالناشر وليد أبو ظهر، سمحت لي بمصارحته بخوفي على الصحيفة من الحرائق السياسية والطائفية التي يشعلها الحوت وعرفات. ثم شعرت بضيق الحوت بي، وبحملته عليّ بين الزملاء، في الصحيفة، إلى درجة أنه جاء يومًا مُباهيًا: «أنا أريد أن أجعل من وليد هيكل آخر. وأنت تريد أن تجعل منه علي أمين»!

ازدادت حرائق السياسة اشتعالا بالتعقيدات التي خلقها صدّام. فقد نزل إلى السوق اللبناني شاريًا ما هب ودب من صحف ومجلات، وصحافيين وكتاب ومثقفين وساسة. في النصف الأول من السبعينات، غدت المنافسة على لبنان سافرة بين فرسان المائدة: الأسد وصدّام وعرفات.

ثم ما لبثت الحرائق أن حاصرت الحوت نفسه. فقد اختلّت سياسة الجريدة بين يديه. حَسَمَ الدخول العسكري السوري هستيريا الصراع الثلاثي. استبق الأسد الوصول إلى بيروت، بعملية «تطهير» المواقع الصدّامية والعرفاتية. كانت «المحرر» في طليعة هذه المواقع.

فاجأت منظمة «الصاعقة» السورية «المحرر» بهجوم صاعق على مبناها الضخم في منطقة الشِيَّاح. قُصف المبنى بصواريخ الكاتيوشا والقنابل الفسفورية والمدافع الرشاشة المضادة للطائرات. فر الحراس. مات مَنْ مات من محررين وعمال. لسوء حظ أبي الهادر أنه كان في المبنى. صعدنا إلى السطح لنجد أن النيران تلفّه من كل جانب. أصيب أبو الهادر بالهَلَع. راح يئن ويشكو نائحا: «تخلّوا عنا. أين عرفات؟ أين فتح؟!». ولم يكن الهاتف المحمول معروفًا آنذاك.

بالمصادفة عثرنا على سلّم خشبي هزيل استخدمه الحراس الفارُّون جسرًا للانتقال علية إلى مبنى مجاور في طور البناء. عندما جاء دور أبي الهادر في الصعود خانته قدماه. كان المشهد يدعو حقًا للرثاء والإشفاق والضحك معًا. استعجلت أبا الهادر. كانت عملية الاقتحام قد بدأت. اضطررت إلى دفعه من قفاه مع المسدسين المعلقين بجانبيه. زحف أبو الهادر على السلم بجهد جهيد وهو يتطلع إلى الهوة السحيقة الفاصلة بين المبنيين. نجونا. وكتبت لنا حياة جديدة.

بيروت، في الحرب، مدينة لا تموت. تركت «المحرر». لم أكن أصلاً محررًا متفرغًا للعمل فيها فقط. كنت أعرف حدود شجاعتي المتواضعة. لم أكن في «بسالة» أبي الهادر في الوَغَى. كان الجمع بين السياسة والصحافة فوق طاقة الصحافي الكبير شفيق الحوت. وتركت التجربة وحرائق السياسة ملامح الحرارة على وجهة.

ثم جاء حصار الحريق الأخير في عام 1993. خَيَّرَ السوريون الرجل بين الاستقالة من عرفات، أو مغادرة لبنان ملتحقًا به، أو النهاية المحتومة. اختار شفيق الحوت البقاء في لبنان الذي أحبَّ وأخطأ في حقه. غطى استقالته من زعيمه عرفات، ومن منصبة كمدير لمكتب منظمة التحرير في بيروت، وكعضو في اللجنة التنفيذية للمنظمة، بالادعاء بأنه معارض عنيد لأوسلو وللمفاوضات مع إسرائيل.

لعلّي قدمت مثالاً على خطأ الجمع بين السياسة والصحافة، إلى الأجيال الصحافية الجديدة. ارتكب الخطأ صحافيون كبار، بينهم الحوت وغسان ثويني. ضَيَّعَ وليد أبو ظهر صحيفة شعبية كالليرة الذهبية. فر هو أيضًا من لبنان. تذكر نصيحتي له. ذات يوم، أرسل إليَّ زميلاً وصديقًا مشتركًا (ما زال على قيد الحياة) يناشدني العودة، واستلام إدارة تحرير «المحرر».

كان الإنقاذ مستحيلاً في لعبة الموت بين صدّام والأسد وعرفات. في كل صحيفة تولد، أشعر بحرارة أنفاس الحياة. في كل صحيفة تموت، وفي رحيل كل صحافي كبير، أشعر وكأن ضلعًا في صدري قد تحطم.