«رضا هلال» وتغريبة الصحافي

TT

تحل اليوم الذكرى السادسة لاختفاء الصحافي المصري، رضا هلال، مساعد رئيس تحرير جريدة الأهرام.

الرجل اختفى في ظروف غامضة في 11 أغسطس 2003، ورغم محاولات البحث المضني عنه، ومئات المواد الصحافية التي كُتبت عنه أو بُثت، فإن أحدا لم يتلقط إشارة واضحة عن مصير الكاتب المثير بعد آخر مكالمة أجراها من شقته في وسط القاهرة.

أمس الأول نشرت جريدة «الشرق الأوسط» تقريرا عن الصحافي والكاتب هلال، ونقلت عن أفراد من أسرته أنهم علموا بطرقهم الخاصة أن رضا حي يرزق، وموجود في أحد سجون الإسكندرية، لكن لم يصدر أي تعليق رسمي حول هذه المعلومة الجديدة، وكل ما كان ضباط الأمن يقولونه لأهل رضا هلال ومن يسأل عنه أنهم يبحثون عنه بكد وجد على الأقل لتحديد وضعه ومصيره، وهل هو حي فيُرجى أو ميت فيُنسى، وقد خُصص للبحث عنه أكثر من 200 ضابط.

رضا هلال كاتب وصحافي محترف، ليبرالي النزعة، كانت له مواقف سياسية محددة من التيارات القومية والإسلامية، ونازلهم بشدة، وسمى المدافعين عن جرائم صدام حسين بأيتام صدام، ولكن هل هذه المواقف كافية لخطف أو قتل أو تغييب أي كاتب صحافي أو كاتب يتخذ مثل هذه المواقف. كثيرون في المشهد الإعلامي العربي من خصوم هذه التيارات ومن يقف خلف هذه التيارات من دول ومنظمات، لكنهم أحياء يُرزقون إلى اليوم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، فما الذي جعل رضا هلال حالة خاصة؟

الحديث هنا ليس عن قضية رضا هلال، ولا عن أفكاره، بل عن تأزم علاقة الكاتب والصحافي بمصادر القوة والهيمنة في المجتمعات العربية، نقول مصادر القوة التي تمتد من سلطات الحكم إلى شركات الإعلان إلى المجاميع الدينية المسيَّسة إلى جماعات الضبط الاجتماعي والتطويع العام لسلطة الجمهور. كلها قبضات متكورة تضغط على جمجمة الصحافي، وحاله معها كحال من يحاول السباحة في بحر من الألغام، وهو في علاقته بها بين خيارين إما أن يمتلك مهارة الحديث الكثير دون أن يقول شيئا محددا! أو أن يفصح عن أفكاره ومواقفه متحملا الضرر، أو الغنم ربما، المهم أنه يتحمل مسؤولية كلامه وأفكاره، ولكن قليل من يفعل ذلك، وقديما قال المتنبي: لَوْلاَ الْمَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ...! وربما يجد الكاتب موقعا بين هذا وذاك فيكتب، دون أن يستحضر في ذهنه نية مسبقة للمعارضة أو الموالاة، بل يدع كل فكرة لحينها ويتحذ كل موقف حسب معطيات القضية الخاصة بعينها، دون الالتزام بتوجه دائم، طبعا هذا لا يعني أن لا يكون له إطار عام ينظم أفكاره وتوجهاته وإلا أصبح «سبهللا» يطير مثل الريشة مع رياح الخوف أو ريح المغانم.

وهذا يقود إلى قضية أخرى في علاقة الكاتب أو الصحافي بمحيطه الاجتماعي والسياسي، هل هو ملزم باتخاذ «موقف» أو أنه ملزم بتقديم معلومة، هل هو ناقل بريد أو هو مبشر وموجه؟ ما زالت المسألة محل جدل، وحتى في الصحافة الأميركية التي هي قدوة الصحافة العالمية هناك من يتبنى هذا أو ذاك من التوصيف المنهجي لمهمة الكاتب.

كارل ماركس يرى أن المثقف الحقيقي، يجب أن يكون معارضا وليس مجرد مراقب أو محلل (كتاب بؤس الصحافة ومجد الصحافيين، نعيمان عثمان، ص47).

لكن هذه النظرة الماركسية لوظيفة المثقفين، والصحافي منهم، ليست مطلقة مسلمة، ففي مجال الإعلام، كما أشرنا، الجدل لم ولن يتوقف في المدى المنظور في وظيفة الصحافي والكاتب، وفكرة الفصل بين الخبر والرأي نفسها ما زالت موضع بحث ونقاش، خصوصا مع تعدد مصادر المعلومات والأخبار، فلم تعد الصحف ولا التلفزيونات هي السباقة في بث الأخبار وتحديثها، مع وجود الإنترنت ورسائل الهاتف المحمول النصية أو المصورة أو المتحركة (صوت وفيديو). رغم أن «الثقل» والثقة ما زالت من نصيب الصحف والتلفزيونات، لكن الحاجة صارت ماسّة إلى معرفة ما وراء الأخبار، الحاجة هي إلى التفتيش والتحليل وكشف العلاقات المتشابكة في عناصر الخبر وأبطاله، وهذه وظيفة الكاتب أو الصحافي المحلل، وعليه، وإذا ما سلّمنا بصحة هذه القراءة، فإن الكفّة راجحة لصالح صحافة الرأي والتقرير على حساب صحافة الخبر، إلا إذا كانت الوسيلة الإعلامية، تلفزيونا أو صحيفة، قد انفردت بالخبر، هنا تصبح القيمة مضاعفة.

بكل حال فإن مياها كثيرة جرت في ساقية العلاقة بين الإعلام ومحيطه السياسي والاجتماعي والاقتصادي، صحيح أن السوق والتجار كانوا هم شرارة البدء في تكوين صحافة المعلومة والدقة فيها، يتحدث الخبير الأميركي في الإعلام، عبد الله شليفر، عن أن النموذج الصحافي الأنجلو أميركي سعى في بدايته إلى الدقة والموضوعية راجعا ذلك إلى حاجة التجار إلى أخبار سريعة ودقيقة عن أسعار المواد المتقلبة أو الأحوال السياسية المتغيرة التي تؤثر في التجارة والاستقرار (بؤس الصحافة ومجد الصحافيين، ص66) ولكن كان هذا حديثا قديما ويصلح لتفسير البدايات بيد أنه لا يصلح في عصر الإنترنت والموبايل.

لا مناص من الإقرار بالعلاقة الوثيقة بين الصحافة والسياسة، إذا ما قلنا إن السياسة، بوصف ما، هي إدارة وتحكم بالشأن العام، السؤال هو أيهما يؤثر في الآخر بدرجة أكبر، الإعلام أم السياسة؟

في حرب إسقاط نظام صدام حسين شنّت الصحف اليسارية البريطانية نقدا لاذعا لسياسات توني بلير، ليرد الأخير بعبارة مهمة حينما قال: «إن الصحافة لا تخضع لأي قوانين أو أنظمة مثلما هو الحال في مؤسسات الدول الديمقراطية كافة»، ويرد نائبه، سبيرو أغنيو، بعبارة أكثر مباشرة حينما قال: «إن الصحافة ومن يقودها لا يمثلون إلا أقلية غير منتخبة!». ولكن الصحافيين لم يقصروا في الرد على بلير متهمين إياه بأنه في مثل هذه الهجمات إنما يريد من الصحافة القيام بما عجز هو عنه في الانتصار السياسي.

لكن ما لنا ولعلاقة الصحافة بالإعلام والسياسة في الغرب؟ هذا حديث محرج لنا، والأهم أنه بعيد عنا، في عالمنا العربي الصحافة نشأت في سياق مختلف عن السياق الأوربي أو الأميركي، نشأت وكانت الهمينة فيها لأهل الأدب والشعر ثم لعلماء الإصلاح الديني ورواد الاستقلال الوطني، ولم تتحول إلى أيدي أهل الصنعة إلا في أوقات لاحقة، مع وفرة الجدل السياسي في أثناء عهود حركات الاستقلال الوطني ثم بعد الاستقلال والحروب الباردة بين الدول العربية المحافظة والثورية، كانت النخبة الصحفية عرضة لهذه الانشطارات العمودية وذهب بعض ألمع الصحافيين العرب ضحية لهذه الصراعات، كما حدث للصحافي اللبناني سليم اللوزي المقتول (1980) شر قتلة في أحراش بيروت بسبب معارضته للوجود السوري، وأحرقت يده بحامض كيميائي كدلالة على قطع يد الصحافة المعارضة والمختلفة. وقبل اللوزي وبعده، على المستوى العربي، سقط الكثير من شتى الاتجاهات، سقط صحافيون يساريون ويمنيون إما على يد أجهزة الدول المعادية وإما على يد جماعات محسوبة عليها وإما على يد أحزاب أصولية أو قومية، والحالة الأغرب، التي تشبه حالة المصري رضا هلال، هي حالات الإخفاء والتغييب التي حدثت لصحافيين، في تكثيف مجازي مرعب للحالة المثالية التي يرغبها أعداء الصحافي والكاتب وهي: الغياب وعدم الإزعاج.

لا نزعم براءة الصحافيين، وكما قال وزير الإعلام المغربي خالد الناصري في «أصيلة» سابقا، إن الصحافي ليس طرفا محايدا بل هو «فاعل» سياسي. وأحيانا تستخدم بعض الدول، في الغرب والشرق، صفة الصحافي لتموه به على مهام جواسيسها، بل إن البعض استسهل ذلك مثل الممثل البريطاني الكوميدي كوهين في فيلمه «برونو» حيث زوّر صفته للناشط الفلسطيني الذي قابله، مقدما نفسه باعتباره صحفيا يعد فيلما وثائقيا في حين أنه كان يقدم الفلسطيني مادة كوميدية في فيلمه باعتباره إرهابيا.

علاقة الصحافي والكاتب العربي بمحيطه العام علاقة يغلب فيها جانب التعب والأسى على جانب المتعة والفرح، صحيح أنه يحصل على بريق الشهرة وسطوة التأثير، لكنه معرض أكثر من غيره لاستثارة الغضب كل يوم، ويصعب عليه أن يوائم بين سلامته الشخصية وما يتوجب عليه ككاتب وصحافي مساهم في المجال العام، حتى لو سخر البعض من قدرة أو نزاهة الصحافي في صناعة الرأي العام، على اعتبار أن «الرأي العام في الغالب هو خلاصة ما يتناوله الصحافيون بينهم عندما يلتقون في الحانة». حسب المستر هاني كما ذكره صاحب «بؤس الصحافة».

هل يمكن للصحافي والكاتب أن يحافظ على الحد الأدنى من الوفاء لصفته كصحافي ينتمي إلى «مجال» آخر غير المجال الاقتصادي والسياسي، ومع ذلك يبحر سليما وبعيدا عن الأذى؟

مهمة صعبة، نجح فيها البعض في العالم العربي واخفق فيها البعض، ومشكلتها في الحالتين أن نجاحها ثمين ومضاعف، وإخفاقها مخيف وماحق.

[email protected]