لو تكلم الحريري!

TT

يُروى أن امرأة شاطرة رأت زوجها يتقلب في فراشه قلقا فسألته عما به. وعندما أطلعها على سر قلقه وهو أن عليه أن يسدد كمبيالة لجاره في الصباح وأنه لا يملك المال اللازم لتسديدها، قالت له: بسيطة. وعمدت إلى فتح النافذة ونادت جارها، حتى إذا أطل عليها بادرته قائلة: إن زوجي مدين لك بمبلغ من المال وإن الاستحقاق هو في الغد، فاعلم بأن زوجي لا يملك المال ليسدد دينه غدا. وأغلقت النافذة قائلة لزوجها: «الآن أغمض عينيك ونم. فجارك هو الذي لن ينام».

تذكرت هذه «النكتة» وأنا أتأمل في ما آلت إليه أزمة تأليف الحكومة اللبنانية التي لا تحل عقدة فيها إلا وتبرز، بعدها، عقدة جديدة، متوقفا عند سفر الرئيس المكلف سعد الدين الحريري إلى فرنسا «في إجازة عائلية»، متسائلا: عما إذا لم تكن هذه الإجازة أشبه بما فعلته المرأة الشاطرة مع جارها. مع فارق كبير وهو أن الرئيس المكلف ليس مدينا لأي فريق سياسي، بل هو رئيس حكومة «مسمى» من أكثرية النواب وممثل لأكثرية نيابية فازت في الانتخابات. بل وهو ممثل غير منازع للطائفة السنية في البلاد، التي تؤول إليها رئاسة الحكومة في الميثاق الوطني اللبناني.

لست أدري ما تفكير الحريري واستراتيجيته السياسية، بعد أن ارتفعت كل تلك العقبات في وجهه، ولا سيما بعد «تخلي وعدم تخلي» وليد جنبلاط عن تكتل 14 آذار. ولكن من حقه أن يقول لكل الأفرقاء المعارضين، القدامى والجدد: لماذا تريدون إلقاء كل أثقال الأزمة الوطنية والسياسية في لبنان، على كاهلي وحدي؟ على من وما أمثل؟ لماذا يحق لكم أن «تتغنجوا» عليّ، وعلى الأكثرية التي انتخبها الشعب، وأنا أكثر منكم حقا في «الغنج»؟ أنا لن أركض وراءكم ولن أخضع لمطالبكم التي لا تنتهي، بل عليكم أنتم أن تلاقوني عند منتصف الطريق، كي تقوم حكومة اتحاد وطني حقيقي.

ومن حق الرئيس المكلف أن يقول أكثر من ذلك.. يحق له أن يسأل «الذين» استفاقوا على العروبة والمقاومة واليسار: هل شعار «لبنان أولا» يتعارض مع العروبة والمقاومة؟ هل نضال سنوات من أجل استرداد السيادة والاستقلال، كان مجرد «تحالف مؤقت»؟

هل البرنامج الاقتصادي والاجتماعي الذي تبناه فريق 14 آذار وخاض الانتخابات على أساسه مجرد حبر على ورق؟ وأن يسأل الذين يتناتشون الوزارات «السيادية» والوزارات «الخدماتية»: هل هم داخلون حكومة الاتحاد الوطني لتحقيق الاتحاد وتسخيره لخدمة البلاد؟ أم أنهم يعتبرون مشاركتهم في الحكم خطوة نحو «شيء آخر» يضمرونه. وليس التعاون بين كل الأفرقاء السياسيين لإنقاذ لبنان، نهائيا، من المحنة التي يعاني منها منذ أربعين عام؟

غريب هو أمر السياسة والسياسيين في لبنان. يتلاقون ويتفرقون، لا حول المبادئ والمواقف، بل حول مصالح شخصية وحزبية وطائفية وانتخابية، وإقليمية ودولية، أيضا. حتى إذا ما دفعوا البلاد إلى المحن والكوارث والحروب، سارعوا إلى تحميل الآخرين والعالم ـ وإسرائيل طبعا ـ مسؤولية النزاعات التي يثيرون.

وليت هذه المأساة المضحكة ـ المبكية، تتوقف عند هذا الحد، ولا تنتقل إلى الحديث عن «تعديل الدستور» و«تصحيح اتفاق الطائف» و«صلاحيات رئيس الجمهورية» و«تحويل لبنان إلى دولة ممانعة وأرض مقاومة»، كأنما الدستور قميص يغيَّر كل يوم، أو كأن لبنان لم يدفع غاليا ثمن تحوله إلى أرض مقاومة، طيلة خمس عشر سنة؟ أو كأنه بحاجة إلى عدوان إسرائيلي جديد يدمر بنياته التحتية.. كي يسجل هذا الفريق انتصارا؟

إن المجتمع الدولي والدول العربية لا تريد للبنان غير ما يريده اللبنانيون لأنفسهم، أي المحافظة على استقلالهم وأمنهم وسلامهم ووحدتهم الوطنية وديموقراطيتهم. ولكن مشكلة بعض السياسيين والأحزاب، هي في ركوب سفن شراعية عقائدية، في زمن السفر بالطائرات والوصول إلى القمر والمريخ. هي في «الذهاب إلى الحج والناس راجعة منه» ـ كما يقول المثل. هي في أن الأدغال الخطرة تستهويهم أكثر من الشواطئ الهادئة.

لست أدري ما الخطوة التالية لسعد الدين الحريري، وماذا سيقول لو تكلم بعد عودته من إجازته. ولكن كل شيء يدل على أنه ليس مستعجلا ومجبرا على تشكيل حكومة «كيف ما كان»، ولا على الرضوخ لشروط المعارضين الجدد والقدامى. لأنه تقدم نحو أخصامه أكثر من خطوة، وأن على هؤلاء أن يسهلوا مهمته، لا أن يعقّدوها. ولأن رئاسة الحكومة ليست «رهينة» عند أحد، بل إنها عصب الحكم والممسك، دستوريا، بزمام السلطة الإجرائية، بالتعاون مع رئيس الجمهورية.

هذا ما ربما سيقوله الحريري، لو تكلم، سواء قصرت إجازته أم طالت.